Source: الإعمار والاستثمار في لبنان | 24 June 1996 | Country: Beirut, Lebanon

المؤتمر الثاني لاسواق رأس المال العربية

المؤتمر الثاني لاسواق رأس المال العربية
24-26 حزيران 1996
        بيروت   د. جوزف طربيه
            رئيس مجلس ادارة بنك الاعتماد اللبناني
           نائب رئيس اتحاد المصارف العربية
مداخلة حول موضوع
الاعمار والاستثمار في لبنان

يعيش لبنان حاليا" في ظل هاجسين : هاجس الاعمار وهاجس التعديات الاسرائيلية عليه التي ترمي فيما ترمي اليه الى تعطيل عملية الاعمار.
وقد فشل الاعتداء الاسرائيلي على لبنان الذي حصل في نيسان الماضي في تحقيق اي من اهدافه وخاصة على صعيد وقف اندفاعة عملية الاعمار او التسبب في اهتزاز الثقة في الاقتصاد اللبناني اذ تجاوبت اسواق المال الدولية بسرعة مع اصدارين لبنانيين لسندات الدين بالدولار الاميركي ، تم اولهما بعد اسبوعين من انتهاء العملية العسكرية في نيسان الماضي، وتم ثانيهما في الاسبوع الماضي، وفي اليوم التالي لتشكيل حكومة الصقور في اسرائيل.

ان هذه الثقة بالاقتصاد اللبناني لا تنفي الحاجة الى السلام لتعزيز النمو والازدهار باعتبار ان الصراعات بمختلف اشكالها تشكل معوقات للاستثمار في المنطقة.  لذلك، فان التطورات السياسية المذهلة التي يمر بها الشرق الاوسط اليوم ستنعكس بصورة مباشرة على هياكل الاقتصاد السياسي، وعلى تدفق الاستثمارات والنمو الاقتصادي في لبنان وكافة بلدان المنطقة.  كذلك لا يمكن النظر الى هذه الحقائق بمعزل عن المتغيرات السياسية والدولية الاخرى المؤثرة على منطقتنا والتي تتلخص بما يلي :
- بروز الولايات المتحدة الاميركية كقوة عظمى وحيدة ذات تأثير لا يضاهى في رسم سياسات المنطقة؛

- العلاقات الخليجية - الخليجية وخاصة على ضوء ما يؤول اليه مستقبل النظام في العراق وطريقة تعاطيه في المستقبل مع دول الخليج؛
- العلاقات العربية التركية، وخاصة تطور طريقة التعاطي التركي مع كل من سوريا والعراق؛
- الدور الاقليمي الذي تحاول ايران ان تلعبه على صعيد الخليج ومنطقة الشرق الاوسط.

بالنسبة للبنان، فان اللبنانيين الخارجين من تجربة حرب مريرة مؤهلين في الحاضر اكثر من اي وقت مضى لبناء سلم داخلي ثابت، وقد ترسخت مسيرته ولم يعد من السهل الارتداد عليها.  كما ان عودة السلام الداخلي الى لبنان قد اعاد الشأن الاقتصادي الى واجهة الاهتمامات، اذ وفر للدولة الاطار المناسب للعودة الى ادارة الاقتصاد.  وان على رأس التحديات التي يواجهها لبنان في هذا المجال، عملية ضبط عجز الموازنة العامة في وقت تشتد فيه الضغوط لزيادة الانفاق الحكومي بهدف اصلاح البنية التحتية واعادة بناء الاقتصاد وتحسين الخدمات العامة.  وان الصعوبات التي يقتضي مواجهتها على هذا الصعيد كبيرة اذ تتطلب وضع مجموعة واسعة من السياسات الاقتصادية الكلية يأتي في مقدمها رسم السياسة النقدية والضريبية بحيث لا تتعارض مضامينها او نتائجها في الوضع الراهن مع اهداف السياسة الاقتصادية والاجتماعية.

بالطبع ان المشكلات التي تواجهها الدولة بعد حلول السلام هي كبيرة جدا وتفوق في تعقيداتها مشكلات الحرب لانه مع السلام تأتي كافة الاستحقاقات دفعة واحدة اذ لا مجال لتأجيل ترميم البنية التحتية وتأمين شبكات الاتصالات والماء والكهرباء وحل مشكلة الاجور والايجارات ومشاكل التمويل وتشجيع الاستثمارات واستقطاب الرساميل للعودة الى التوظيف في لبنان.  ولا نريد ان نقلل ايضا من مشكلات اعادة البناء السياسي اذ ان اول شروط اعادة البناء الاقتصادي هـي التسليـم بـأن الاستقـرار السياسـي قـد عـاد نهائيا" الى لبنان لان اعادة البناء تتطلب توظيفا"

لرساميل لا يمكن ان تأتي الا في ظل اوضاع مستقرة.  لذلك فإن اولويات العمل السياسي اليوم هي تثبيت السلم الاهلي وتعزيز العمل المؤسساتي ضمن الاطارات الدستورية والقانونية المرسومة له.
اما الشرط الثاني لنجاح عملية البناء الاقتصادي فهي اعتماد اللبنانيين على انفسهم وتفعيل المناخات القانونية والاقتصادية والمالية المؤاتية للعمل الاقتصادي، وبصورة خاصة المحافظة على ثبات النقد ومعالجة عجز الموازنة ، وضبط الوضع المالي، وعودة الدولة لجباية وارداتها، واصلاح النظام الضريبي وتحديثه عن طريق وضع سياسة ضريبية متماسكة ذات توجهات اقتصادية واجتماعية محددة على المدى المتوسط والطويل.

في الواقع، ان هذه المصاعب جميعها لم تحل دون انبعاث لبنان وانطلاق مسيرة الاعمار والبناء فيه.  وقد استفاد لبنان ايضا" من تحسن المناخ السلمي في المنطقة خلال السنوات الاخيرة الذي ادى الى تحسن المناخ الاستثماري في كافة الاقتصادات المجاورة.  ومع رسوخ السلم الاهلي في لبنان، عادت الميزات التي يتمتع بها الاقتصاد اللبناني الى الواجهة، اذ يقدم تاريخ لبنان الاقتصادي مثالا" يحتذى لقوة اقتصاد السوق مقارنة بما كان سائدا" في معظم اقتصادات دول المنطقة التي لا يزال بعضها رازحا" تحت انظمة الاقتصاد الموجه في ظل الاعتماد الواسع على القطاع العام والممارسة التجارية المقيدة.
انه من الطبيعي ان يسعى لبنان الى استعادة موقعه الاقتصادي، وهذا السعي المحموم نلمسه في كل التحركات الجارية سواء كانت للهيئات الاقتصادية او للمسؤولين اللبنانيين.  واننا نلمسه خاصة في حركة الدبلوماسية المباشرة التي يقوم بها رئيس الحكومة اللبنانية الذي نشاهده في اخبار المساء يزور الصين ونستفيق في الصباح لنراه يعقد اتفاقيات في قارة اخرى.  واذا كان من الصعب ان يعود لبنان الى تأدية نفس الوظيفة الاقتصادية التي كان يؤديها قبل الحرب، وذلك بسبب تغير لبنان نفسه والتغيير الذي حصل في محيطه وفي العالم طيلة العشرين سنة

الماضية، فان لبنان لا يزال يتمتع بالميزات التفاضلية التي تمكنه من جذب الاستثمارات ، والتي يأتي في مقدمها نظام الحرية الاقتصادية الكاملة، ووجود ضمانات قانونية تحمي الاستثمار، ونظام ضريبي معتدل تـكثـر فيـه الاعـفـاءات الضريبيـة لغايـات تشجيـع الاستثمـارات وتمركـز المؤسسـات.  كمـا ان الاقتصاد اللبناني يوفر فرصا" جيدة للاستثمارات المجزية.  وتبرز فرص الاستثمار الرابح في مختلف الحقول والمجالات اذا ان لبنان خرج من حرب طويلة ودخل في مرحلة اعمار شاملة.  ومن المنتظر ان  تتنامى حركة تدفقات الرساميل اليه مع استئناف عملية السلام في المنطقة، وتصاعد تدابير التشجيع التي تقدمها الدولة اللبنانية لتنشيط الجهد الانمائي والاعماري؛ خاصة وان الاحداث التي ضربت لبنان في الماضي، لم تؤد، على الرغم من قساوتها، الى اي مس بالحريات الاقتصادية والضمانات القانونية التي كانت سائدة قبل الحرب.  وان هذه المأثرة في التاريخ الاقتصادي للبنان هي خير ضمان للمستثمر على ثبات واستقرار المناخ السليم الذي يرعى العملية الاستثمارية في البلاد.
لقد سمعنا منكم، يا معالي وزير المالية ، ان لبنان يسعى الى لعب دور جديد ومتطور، هو الدور المكمل للاقتصادات العربية، الراغب في التناغم والتكامل معها، والمبتعد عن التنافر والتنافس.  اني اغتنمها فرصة للاشارة ان الاقتصادات العربية، بما فيها لبنان، يجب ان تواجه  معا" تحديات الحقائق الدولية الجديدة في الميدان الاقتصادي.  فالميزات التفاضلية او التنافسية لاي دولة عربية لن تكون كافية، في ظل التحولات الجذرية في البيئة الدولية، لتحقيق النمو الاقتصادي الذي نطمح اليه مقارنة بما هو جار حاليا" في الدول المرتفعة النمو كاليابان والنمور الاسيوية وبعض دول اميركا اللاتينية.  وانه من اجل تحقيق النمو المرتجى والازدهار في ظل توزع العالم بين تكتلات اقتصادية عملاقة وازدياد المنافسة العالمية لا بد للاقتصاد اللبناني والعربي ان يتنظم ضمن تكتل اقتصادي او سوق عربية مشتركة.  وقد دعونا دائما" من خلال اتحاد المصارف العربية الى قيام غات عربية تسبق تطبيق اتفاقية الغات الدولية بحيث تزول الحدود والحواجز امام التجارة وتنمية الموارد البشرية وتتم اقامة البنى التحتية المشتركة التي

من شأنها تنمية الموارد وتخفيض الكلفة، وذلك كله يصب في خانة تقوية الروابط الاقتصادية بين الدول العربية ويندرج ضمن التوجه الدولي لتحرير التجارة وازدياد ترابط الاقتصادات الدولية.
لقد عانى لبنان، كما معظم الدول العربية، من فقدان التعاون الاقتصادي على الصعيد العربي، كما فشلت كافة الخطط لاقامة سوق مشتركة عربية لعدة اسباب منها ابتعاد الانظمة الاقتصادية في معظم الدول العربية عن انظمة اقتصاد السوق، وتشابه بنى الانتاج الى حد كبير فيما بينها وتشابكها وتنافسها نتيجة محدودية النوعيات المنتجة والتزام القليل من هذه المنتجات بمعايير الجودة العالمية.  اما الآن فتمر الساحة العربية بمرحلة تاريخية في غاية الحساسية في اطار التحولات العالمية في السياسة والاقتصاد. وان ما نشاهده حولنا من تطور يشير الى تقدم قواعد الاقتصاد الحر في عدد من الدول العربية، والى انتهاج دول عربية اخرى طريق الحرية الاقتصادية والتخصيص بدرجات متفاوتة سواء كان ذلك من حيث الحجم ام من حيث السرعة.  وعلى هذا الصعيد، تشكل تجربة لبنان الاقتصادية شهادة امتياز لقوة اقتصاد السوق الذي يتبعه لبنان منذ أكثر من نصف قرن، وان تحول الاقتصادات العربية نحو نظام من الحرية الاقتصادية يساعد الآن على خلق تكتل اقتصادي متجانس يستفيد من تجارب المجموعات الاقتصادية الكبرى الثلاث: الاتحاد الاوروبي، تكتل الجنوب الاسيوي وتكتل الشمال الاميركي في خلق سوق عربية مشتركة عصرية لا تتسم باية سيطرة اقتصادية او سياسية لاحد على حساب احد، انما وسيلة لزيادة الثروة التي يعم خيرها الجميع بصورة متساوية، كما حصل في السوق الاوروبية المشتركة حيث لا عدو ولا صديق، انما اعتبارات النمو الاقتصادي والمصالح المشتركة التي تعلو فوق كل نزوة.  وربما ظهرت هذه الرؤية من باب التمني في وسط التفكير السياسي العربي الذي لا يزال اسيرا" في بعضه لفكر آخر يتعارض مع التبدلات الحاصلة في عالم سقطت فيه الايديولوجيات وبقيت المصالح الاقتصادية العامل الحقيقي لبناء السياسات والتحالفات.

Cookie Policy

We use cookies to store information about how you use our website and show you more things we think you’ll like. Also we use non-essential cookies to help us improve our digital services. Any data collected is anonymised. By continuing to use this site, you agree to our use of cookies. If you'd like to learn more, please head to our cookie policy. page.
Accept and Close