Source: Credit Libanais Group | 03 March 2010 | Country: Beirut, Lebanon

مداخلة الدكتور جوزف طربيه رئيس الرابطة المارونية في الندوة عن الموارنة ولبنان بمناسبة يوبيل الـ 1600 عام على وفاة مار مارون

مداخلة

الدكتور جوزف طربيه
رئيس الرابطة المارونية


في الندوة عن

الموارنة ولبنان
بمناسبة يوبيل الـ 1600 عام على وفاة مار مارون

 

 


مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية
3/3/2010

حكاية الموارنة مع لبنان، حكاية طويلة.  فالإثنان متلازمان ومندمجان، لا مكان بينهما، مهما إتسع إنتشار أتباع مارون في مشارق الارض ومغاربها.  أما الحرية، فهي زادهم يحملونها اينما إتجهوا، لأنها إنسابت في مسامهم، وتقمصتهم وتقمصوها.  وهي باتت سمة ترافقهم تحت كل سماء.

والحقيقة أنه لم يرتبط مصير مجموعة ببقعة جغرافية، مثلما إرتبط مصير الموارنة بلبنان.  ويعود ذلك الى أن الكنيسة المارونية هي كنيسة مناضلة، لا كنيسة مبشّرة، منفتحة على الآخر، لا توصد الأبواب دونه، لكنها لا ترغمه على الإنخراط فيها ترغيباً أو ترهيباً.  تحترم الآخر المختلف، أملاً في إحترامه خصوصيتها، وحضورها.

والنضال في الكنيسة المارونية يعني حفظ الإيمان، وتجذير فعل الحرية فكراً وممارسةً.  وليس هناك من ضمانة لإستمرار المارونية ما لم يكن لبنان حراً.  إن وجود الموارنة مرتبط بجغرافية الأرض وهويتها.  ولبنان هو أرض الجذور، أما الأغصان الوارفة التي بسطت ظلالها على القارات الخمس، فلا تقوى على الصمود، إذا تنكرّت للشجرة الأم.  فهنا نبع ينابيع الموارنة ببعدها الإنطاكي المشرقي، وإمتدادها العروبي الحضاري المثقل بالعطاء المتنوّع، المختلف المؤتلف، والفاعل في عملية الترقي الإنساني.

ولفرط تعلقه بالحرية، لا يستطيع الماروني أن يكون كالآخرين، يعيش في ذمة الغير.  فكنيسته في البدايات تشكلت على أساس رفض الإضطهاد أي كان مصدره.

ومن هنا علمت عاديات الزمن وأحداثه الموارنة أن يأخذوا بأسباب العلم المحرر من الجهل، والقوة الدافعة للظلم.  ومن هذا المنطلق نمت فكرة الحرية، وعقيدة الذود المستمر عنها.

ولست أجد حرجاً أن اقول: لا يمكن للمرء أن يكون مارونياً وذميّاً في آن.  وإذا كانت الذميّة لدى البعض قدراً، فإنها لدى الموارنة الخيار المرفوض دائماً.  وكان البديل منه المزيد من التجذرّ في الخصوصية والذاتية والتشبث غير المسبوق بالثبات على الإيمان وحفظ التراث، ولو كلفهم ذلك هجرة السهول الخصبة والمدائن الزاهرة، واللجوء الى قعر الأودية، والسكن في المغاور، وترويض وعورة المسالك، والنفاذ منها الى التلال الصخرية الجرداء وتحويلها الى جلول يحملون اليها ما تيسر من أتربة، لزراعة وإنتاج ما يدفع عنهم غائلة الجوع.  كفاف لا يشبع وكثير من الحرية ترتقي بهم الى أعلى ذرى الكرامة.

إن إرتحال الموارنة الى جبال لبنان، حيث مراتع العقبان، وأوجار الضواري، والغابات الكثيفة، وإخلاط الوثنييّن، كان علامة فارقة من علامات الأزمنة التي تبشّر بفجر جديد يطلّ على هذه البقعة الجغرافية المعقدة، والمتداخلّة، والمسننة كتضاريسها لأنهم نفحوا فيها روح الإيمان، والبسوها عقيدة باتت لصيقة بها أيما إلتصاق ألا وهي عقيدة الحرية.
على أن هذه العقيدة – رغم كلفتها الغاليّة على ناشريها – ساهمت على كرّ القرون والعقود بما راكمته من تجارب نوعية في صوغ محددات للبنان ودوره تمثلت في ما يأتي:
1- تحوله من مجرد رقعة من الأرض لا تقدم ولا تؤخر، الى ملتقى للديانات والحضارات، تتجاور، تتحاور، تتفاعل، تتمايز وتتحد في آن، ضمن منظومة من القيم الجامعة المؤسسة على الحرية.
2- إن هذا الملتقى أضفى على لبنان دوراً تجاوز تخومه الجغرافية، وهو ما عبّر عنه السعيد الذكر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في ”الإرشاد الرسولي من أجل لبنان“ بالقول: ”إن لبنان هو أكثر من وطن، إنه رسالة“.
3- ممارسته حوار الحضارات والديانات على أرض الواقع، بشكل يومي، بفعل إختلاط أبنائه، وتقاسمهم معاً حياة واحدة بكل ما تحفل من مسرات وخيبات.  وذلك قبل قرون من المجامع المقدسة، وكتابات الفلاسفة والأدباء، وندوات مراكز الابحاث الإقليمية والدولية التي تناولت هذا الموضوع

إن الموارنة لم يكرهوا يوماً على إعتناق العروبة، إذ أنهم كانوا من روادها، كما كانت سلاحهم لصد موجة التتريك التي كادت تفتك بلغة الضاد، وإحدى وسائل الإبداع التي توسلّوها عبر إتقانهم أصول هذه اللغة التي اثروها بعطاءاتهم في مجال الفكر، والادب، والفلسفة، والعلوم على أنواعها.  وكذلك في ميدان السياسة، فقد كانوا الرافعة للمسيحية المشرقية التي أسقطت على العروبة ثوباً متميزاً، شكل المادة الفكرية للقضية العربية وممهداتها، من خلال كتابات المعلم بطرس البستاني، وقصيدة ابراهيم اليازجي ”ألا استفيقوا أيها العرب . . . .“ وأبحاث نجيب العازوري، ومؤتمر باريس الذي عقد لنصرة القضية العربية في العام 1913 والذي أسس للثورة العربية الكبرى.
إن قيم الحرية التي أطلقها الموارنة أغنت البيئة الموضوعية الجاذبة التي حملت العديد من رجالات العرب المتنورين على الطلاق مع الخلافة العثمانية والإنخراط في العروبة.  وقد كان نصيب بعضهم أعواد المشانق في الساحة التي تعمدّت بإسمهم : ساحة الشهداء.
إن نزعة العروبة الحضارية التي تؤثر رابطة القومية والوطنية على رابطة الدين، وتعمّق المسيحييّن، وخصوصاً الموارنة، في معرفتها وإستشراف ما يهددها من أخطار، هي التي دفعتهم الى الإستشعار المبكّر بالمصير الذي ينتظر فلسطين، وكانوا أول من رفع الصوت محذرّاً ومنبهاً مع الأب بولس عبود الغسطاوي عبر محاضراته الثلاث الشهيرة التي بيّن فيها كيف يخططّ اليهود للإستيلاء على مهد المسيح وكنيسة القيامة والمسجد الاقصى، ومع الشيخ يوسف الخازن الأديب والكاتب والصحافي والسياسي الكسرواني الذائع الصيت، والشاعر والصحافي وديع البستاني وسواهم ممن يضيق المجال بذكرهم.
وعندما توافق اللبنانيون في الطائف على الخيار العربي، اقبل عليه الموارنة كخيار حضاري إنساني له حضور ممتد في التاريخ، ومفتوح على آفاق رحاب.

قد يكون الموارنة قد إرتكبوا الأخطاء، كما هي حال سواهم من ابناء الطوائف الأخرى.  وغالباً ما كانت هذه الأخطاء موجعة.  وإن الموضوعية تدفعنا الى التأكيد بأن المارونية السياسية قد فشلت.  وأن مآل الشيعيّة السياسية، والسنية السياسية الى سقوط أيضاً، إذا لم يجر الاتعاظ من المرحلة السابقة.  فلا أحاديات، ولا ثنائيات، ولا ثلاثيات، بل إستنهاض وطني عام تشارك فيه جميع مكونات الوطن والمجتمع من أجل بناء الدولة المدنية، دولة الحق والقانون التي تستمد من روح الاديان السماوية مقومات الاستمرار المتألق في الزمان والمكان.

نعم إن نظام الطائفية السياسية الذي شكلت المارونية السياسية إحدى دعائمه قد أصابه الوهن، ولكنه في مساره المتعرج حمى التنوع وجعل من لبنان بلداً فريداً في المنطقة، يناقض أحادية وعنصرية المجتمع الصهيوني في إسرائيل، وضعف الحريات في العديد من دولنا العربية، وقد جسدت المارونية خط للحرية الذي إنسحب على إمتداد لبنان مما أكسبه هالة وبعداً تجاوز تخوم جغرافيته المحدودة، وأعطاه ميزته في عالمنا العربي، وفي العالم، وطن التعددية والحرية، والتنوع في الوحدة والوحدة في التنوع، مساحة التلاقي الأرحب بين المسيحية والإسلام والحوار بين الأديان، والمساحة الأبرز للتسامح في المنطقة.

Cookie Policy

We use cookies to store information about how you use our website and show you more things we think you’ll like. Also we use non-essential cookies to help us improve our digital services. Any data collected is anonymised. By continuing to use this site, you agree to our use of cookies. If you'd like to learn more, please head to our cookie policy. page.
Accept and Close