كلمــــة
الدكتور جوزف طربيه
رئيس الإتحاد الدولي للمصرفيين العرب
رئيس اللجنة التنفيذية لإتحاد المصارف العربية
فــــي
حفل إفتتاح
الملتقى السنوي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
"تداعيات الاقتصاد النقدي على النظام المصرفي"
بيروت – الجمهورية اللبنانية
فندق فينيسيا انتركونتيننتال
22 – 23 آب/أغسطس 2024
_______________________________
أيها الحضور الكريم،،،
يسعدني أنّ أرحّب بكم جميعاً في هذا الملتقى الذي يعقده اتحاد المصارف العربية، بالتعاون مع الإتحاد الدولي للمصرفيين العرب، وهيئة التحقيق الخاصة – وحدة الإخبار المالية اللبنانية، برعاية مشكورة ومقدرة من حاكم مصرف لبنان بالإنابة – الدكتور وسيم منصوري؛ ويسعدنا أن نلتقي بكم في مدينة بيروت، وخاصة الإخوة العرب، الذين شاركونا اليوم على الرغم من الظروف الصعبة، سواء كخبراء ومتحدثين في جلسات المنتدى، أو كحضور لفعالياته.
يتناول ملتقانا هذا واحد من أهم مواضيع الساعة، الا وهو تداعيات توسع الاقتصاد النقدي والاعتماد المتزايد على المعاملات النقدية على جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فيما يشكل هذا الامر تحدياً ملموساً ومشهوداً في لبنان، فإنّ مخاطره تلوح في دول عربية أخرى، وتحديداً تلك التي تشهد نزاعات وحروب.
أيها الحضور الكريم،،،
على الرغم من اندلاعها منذ نحو خمس سنوات، لا يزال لبنان يشهد أزمة اقتصادية ومالية ونقدية ومصرفية حادة، ومتعددة الأوجه، أدت إلى تحوّل كبير في مشهد لبنان المالي. حيث أضعفت الازمة بشكل كبير القطاع المصرفي، وأدت إلى تراجع دور المصارف اللبنانية، بحيث اضطرت جميعها ومن دون استثناء الى تقليص حجمها وإغلاق عدد كبير من فروعها والتوقف عن الإقراض. وأدى ذلك إلى فراغ كبير ملأته القنوات المالية غير الرسمية، أو الرسمية التابعة لما يُسمى بصيرفة الظل، وصولاً الى المعاملات النقدية، والتي قد تكون عُرضة لسوء الاستخدام من قبل العناصر الإجرامية. وان لبنان يخشى نتيجة ذلك، بالرغم من الجهود المبذولة من حاكمية البنك المركزي مع المرجعيات الدولية ذات الصلة، من تصنيفه سلبياً من منظمة فاتف من خلال ادراجه على اللائحة الرمادية لهذه المنظمة.
ويتعاظم هذا الخطر كلما تعاظم حجم الاقتصاد النقدي في لبنان. وبالفعل، وبحسب البنك الدولي، فقد زاد حجم الاقتصاد النقدي بعد الأزمة ليصل إلى 4.5 مليار دولار عام 2020، وهو ما شكل نسبة 14.2% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم الى نحو 6.1 مليار دولار عام 2021 (مشكلاً نسبة 26.2% من حجم الناتج المحلي الاجمالي، فإلى نحو 9.9 مليار دولار عام 2022 (بنسبة 45.7% من حجم الناتج المحلي الاجمالي). وعلى الرغم من عدم توفر بيانات حديثة، فإن هذا المنحى مستمر.
وما من شك أن إبقاء الازمة النظامية المستمرة منذ خمس سنوات دون حلول، والاجراءات التي اتخذتها المصارف اللبنانية للتكيف مع هذه الازمة، قد دفع شريحة كبيرة من اللبنانيين والمقيمين إلى تفضيل المعاملات النقدية على الطرق المصرفية التقليدية. وبينما يمكن فَهم هذا التحول في ظل الظروف الحالية، إلا أنه يكشف بلدنا أمام مخاطر متزايدة من الجرائم المالية، وخاصة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
أيها الحضور الكريم،،،
كما تعلمون جميعاً، يخلق التوسع الكبير في المعاملات النقدية أرضاً خصبة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب. فالنقد بطبيعته يصعب تتبعه، مما يجعله وسيلة جذابة لأولئك الذين يسعون لإخفاء أنشطتهم غير المشروعة. وفي بلد يتوسع فيه الاقتصاد غير الرسمي بسرعة، يصبح الإشراف التنظيمي اللازم لمراقبة التدفقات، والتحويلات، والمعاملات المالية تحدياً كبيراً.
وعليه، فإن زيادة الاعتماد على الاقتصاد النقدي في لبنان – كما في غيره من الدول – قد يتسبب في مروحة واسعة من المخاطر التي تؤثر على الاقتصاد والأمن الوطني، وحتى على الأمن الاجتماعي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: غسل الأموال، تمويل الإرهاب، التهرب الضريبي، الفساد، التضخم، فقدان السيطرة النقدية وصعوبة تنفيذ السياسات النقدية، انعدام الشمول المالي، تدهور العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية، ضعف النظام المالي الرسمي، وارتفاع معدلات الجريمة، لذلك فإن بُطء العمل على انجاز الإصلاحات الاقتصادية والمالية والمصرفية الضرورية يفرض عبئاً باهظاً على اقتصاد لبنان وسكانه. وبالاضافة الى ذلك، فقد أدت التداعيات السلبية للصراع في غزة، والحرب الجارية على الحدود الجنوبية، والضغوط الناجمة عن أزمة اللاجئين إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي أصلاً. وتبرز عند كل مفترق حجم الاضرار التي يسببها سوء التعاطي مع الازمة النظامية التي ضربت لبنان، ومحاولة تحميل مسؤوليتها للمصارف منفردة، بينما الواقع يشير الى ان الازمة هي نتيجة سياسات متمادية في الزمن مارستها الدولة في الاقتصاد والنقد والادارة العامة والانفاق والضرائب، وقد وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أكبر عشر انهيارات في العالم، وربما من أكبر ثلاثة انهيارات منذ القرن التاسع عشر.
وبينما تم إحراز تقدم في خفض التضخم واستقرار سعر الصرف من قبل مصرف لبنان، لا نضيف جديداً في التنويه بالاجراءات التي تم تحقيقها حتى الان على هذا الصعيد، وصمود الحاكم بموقفه بعدم تمويل عجز الموازنة والتوقف عن طبع العملة، الا أن هذه الإجراءات غير كافية للتعافي. وتحديداً، إن غياب اي خطة حكومية للتعافي تتضمن استراتيجية نهوض للقطاع المصرفي، موثوقة وقابلة للاستمرار، لا يزال يعيق النمو الاقتصادي واسترداد الودائع، وان اي برنامج على هذا الصعيد ينبغي أن يكون ملائماً سياسياً وقانونياً واقتصادياً واجتماعياً حتى يكتب له النجاح، وهذا ما جعل الانطلاقة السابقة لكل مشاريع اعادة الهيكلة تسقط لعدم تمتعها بهذه المواصفات.
إن لبنان بحاجة الى ايجاد حل للأزمة المصرفية والاقتصادية بما يعيد للمصارف دورها في إدارة الاقتصاد الوطني وتنميته، وفي تفعيل آلياتها في مكافحة مخاطر غسل الاموال وتمويل الارهاب بما يحفظ مستقبل لبنان المالي وبقائه في السوق المالي الدولي.
كما يمكن لحلّ الأزمة المصرفية أن يعيد ثقة المواطنين بالقطاع المصرفي، مما يشجع على استخدام القنوات المالية الرسمية بدلاً من المعاملات النقدية. ويمكن للثقة المتجددة في النظام المالي أن تؤدي إلى زيادة الشفافية وتقليل فرص غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كما سوف يساهم اعادة احياء دور القطاع المصرفي في توسيع الشمول المالي والوصول إلى الخدمات المالية للأفراد والشركات، مما يقلل من الاعتماد على النقد.
أيها الحضور الكريم،،،
إن مكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب هي قضية عالمية تتطلب تعاوناً دولياً. وان اتحاد المصارف العربية، يسعى منذ سنوات عديدة لتحقيق تعاون دولي فاعل في مجال كشف ومكافحة وضبط حالات غسل الاموال وتمويل الارهاب، والجماعات المتطرفة، لأن هذه الجرائم اصبحت ذات صبغة دولية عابرة للمجتمعات والدول، ورَعينا لهذه الغاية، ندوات الحوار بين البنوك العربية، والبنوك الاوروبية، وعقدنا عدة مؤتمرات في مجلس الاحتياطي الفدرالي، والخزانة الاميركية، وفي مقر منظمة التعاون والتنمية في باريس (OECD) سعياً لتطوير تحالفات استراتيجية في اطار مكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب، انطلاقاً من ايماننا بالعلاقة المباشرة بين والوكالات الحكومية والمحلية، والاجهزة الامنية والاجهزة القضائية والبنوك، وعلى هذا النحو طوّر الاتحاد علاقات وثيقة بين المصارف العربية والمصارف المراسلة في الولايات المتحدة الاميركية ضمن الاهداف المشتركة لمكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب وقوانين "اعرف عميلك" مع الالتزام بالنظم والقوانين المتعلقة بمكافحة العمليات غير المشروعة.
أيها الحضور الكريم،،،
إن التحديات التي تواجه لبنان فيما يتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب كبيرة – وخاصة تلك الناجمة عن انتشار الاقتصاد النقدي – ولكنها ليست عصية على مواجهتها، حيث تتطلب مواجهة هذه التحديات نهجاً متعدد الأوجه يشمل تعزيز الأطر التنظيمية وتقوية القدرة على الرقابة والتنفيذ، واعادة الثقة بالنظام المالي، وتعزيز الشمول المالي، وتعزيز التعاون الدولي، ورفع مستوى التوعية العامة. كما سوف يوفر حل الأزمة المصرفية والاقتصادية في لبنان بيئة أكثر استقراراً وشفافية وفعالية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ومن خلال العمل معاً، يمكننا حماية نظامنا المالي، والحفاظ على أمننا الوطني، وضمان مستقبل مستقر ومزدهر للبنان. لذلك، دعونا نعمل معاً لضمان أن يخرج لبنان من هذه الأزمة أقوى، مع الاشارة الى ان تحقيق التعافي السياسي يساعد في انجاح التعافي الاقتصادي والنقدي.
أجدّد شكري وتقديري لكم جميعاً وأتمنى لهذا الملتقى أن يُحقّق بجهودكم الأهداف المرجوة منه.
وشكراً لاصغائكم.