القطاع المصرفي في لبنان حيادي تجاه الأزمات السياسية واللبنانيون عماد الاستقرار
د. جوزف طربيه: السياسات الحكومية يجب
أن تراعي عدم الدفع نحو الهجرة والبحث عن هويات أخرى
سياسة مصرف لبنان تدعم النمو وتخلق فرصاً للتوظيف والاستثمار
يقارب الدكتور جوزف طربيه رئيس الإتحاد الدولي للمصرفيين العرب ورئيس ومدير عام بنك الإعتماد اللبناني، التطورات السياسية والتقلبات في لبنان بحذر يطبع المصرفيين بشكل عام، وهو قال في حديث لمجلة «إتحاد المصارف العربية» إن المؤسسات هي حصن الوطن، وإن تشكيل الحكومة الحالية تنطبق عليه مقولة «صنع في لبنان»، بعدما كان هناك دوماً صعوبات في تحقيق ذلك بسبب التشابك ما بين الوضع اللبناني والمنطقة عموماً. وفي بلد عرف بأنه الأكثر تقبلاً للتنوع، وهذا التنوع يتطلب إدارة مؤهلة ومتمكنة لدعم إمكانيات المؤسسات والقوانين والدستور والتقاليد اللبنانية.
ويضيف د. طربيه أنه على الرغم من كل الصعوبات، فإن لبنان نجح وينجح بإجتياز الأزمات التي يمر بها، والخلاصة تثبت أن أنسب الحكومات للبنان هي الحكومات التوافقية، والتي يكون معظم الفرقاء السياسيين مشاركين فيها، لأن اختلافهم ضمن طاولة مجلس الوزراء أفضل من اختلافهم خارج لعبة المؤسسات وخارج مجلس الوزراء.
ومن أجل ذلك، فإن الوضع الحالي يمنح تفاؤلاً للعودة التدريجية للهدوء والإستقرار بالرغم من تحدي الارهاب الذي تواجهه كل المنطقة وليس لبنان فقط.
هل تعتبر أن هناك مخاطر جدية تحيط بالإقتصاد اللبناني بسبب الاوضاع القائمة ، ولبنان مر خلال 30 سنة بظروف وأوضاع صعبة، فما هو مفتاح ضمان الامن والاستقرار للإقتصاد اللبناني ولليرة اللبنانية؟
عماد الإستقرار في لبنان هم اللبنانيين أنفسهم، وكذلك القدرات الإقتصادية للبنانيين، وهي ليست محصورة بمساحة لبنان الصغيرة، بل هي تعبر عن قدرات اللبنانيين في دول الاغتراب، خصوصاً الذين عملوا في القطاع المصرفي، وهو القطاع الذي إستطاع تحييد نفسه عن كل التلونات السياسية والنزاعات والتجاذبات، إذ يشكل المرفأ الآمن لرجال الإقتصاد في لبنان وأصحاب الودائع المقيمين وغير المقيمين، وهو الذي أثبت جدارته في أصعب مراحل الأزمة، ففي الأزمة الأخيرة، حينما هجر السياح العرب لبنان فإن الودائع لم تهجره على الإطلاق.
كذلك يمكن القول إن القطاع المصرفي هو قطاع حيادي سياسياً وطائفياً وتجاه كل الانقسامات الموجودة في لبنان، فعندما يدخل المواطن إلى أحد المصارف لا يدخل إليه من أجل لونه أو مذهبه أو من أجل طائفة المساهمين فيه، علماً أن قاعدة المساهمين في لبنان هي قاعدة وطنية مشتركة وواسعة، كما أن إدارات المصارف هي إدارات تعبر فعلا عن الإندماج الوطني الحقيقي والصادق، وبالتالي فإن بعض هذه المصارف يغطي جغرافيات لبنان كله، بغض النظر عن نوع المكان أو نوع المقام أو نوع التوجه السياسي، فنحن نتنافس في كل مكان، لأن المجتمع اللبناني ينظر إلى تنافسنا على صعيد حسن الخدمة وحسن المنتج المصرفي وأيضاً القوة والملاءة للمصرف.
هل تعتقد أن لبنان قد يواجه فراغاً رئاسياً وما هو إنعكاس ذلك على القطاع المصرفي اللبناني؟
لا بد من القول إن اللعبة السياسية في لبنان مرنة، وتتطلب نفساً طويلاً، وهناك سعي جدي لإحترام الاستحقاقات الدستورية في وقتها، ولكن إذا لم يحصل الإستحقاق في موعده ووقعنا في الفراغ الدستوري، فإن الدستور يسمح ويلزم الحكومة الموجودة بالحكم وبتصريف الأعمال وبتأمين سلطات الرئيس بصورة محدودة، بإنتظار جلاء الامور وإنتخاب رئيس جديد، ونأمل أن يجري إختيار رئيس ضمن توافق وطني شامل، لأن الرئيس هو في النهاية هو نقطة الجمع للتنوع في لبنان وهو حارس الدستور وحارس الكيان الوطني وإستقرار لبنان ومسؤول عن مستقبله، ولا يفترض بالرئيس أن يدخل ضمن اللعبة السياسية اليومية.
كيف تنظرون إلى مسألة طرح اسم «جوزف طربيه» من ضمن أشهر المرشحين لشغل منصب الرئاسة الأولى؟
أنا لم أتقدم بطرح نفسي كمرشح للرئاسة الأولى، ولكنه شرف كبير أن يجري التداول بإسمي عند كل استحقاق رئاسي كأحد الخيارات التوافقية في بلد تهدده الإنقسامات السياسية الداخلية والصراعات الخارجية. إن اللبنانيين منقسمون بعمق حول قضايا سياسية أساسية، ولكن إذا كانت السياسة تفرّق فإن الإقتصاد يجمع. ولبنان، بسبب أزماته المتلاحقة وأزمات الجوار، يعاني تراجعاً مأساوياً في النمو الإقتصادي إنعكس على معيشة اللبنانيين وعلى قصور البنية التحتية والخدمات الحيوية. كما تتصاعد فيه مشكلة الدين العام التي قاربت نسبة نموه، العام الماضي، العشرة بالمئة. والشعب اللبناني، كباقي الشعوب التي تعاني عدم الاستقرار، قلق على مستقبله، وما يهمه أولاً هو تأمين حياة كريمة في بلد يتدافع أبناؤه إلى الهجرة والبحث عن هويات أخرى. وهذا ما يفسر الإهتمام الداخلي والدولي في إنجاز الإستحقاق الرئاسي من خلال التوافق بين المكوِّنات الأساسية للبنان والمجيء برئيس يمكنه إصلاح الإدارة وتغليب أولويات إستعادة مسيرة النمو الإقتصادي وديناميته المولّدة للإزدهار والإستقرار، إلى جانب تفعيل الحوار الوطني وتحفيز علاقات لبنان العربية والدولية لمصلحة السلم الأهلي في لبنان.
يعمل مصرف لبنان على إيجاد بعض المخارج التي تدعم التنمية الاجتماعية أو برامج من الممكن أن تكون جديدة نوعاً ما على القطاع المصرفي في لبنان. ما هي البرامج المستقبلية المرتقبة أيضاً على صعيد مصرف لبنان أو البرامج التي تعمل عليها جمعية مصارف لبنان التي تنضوون في إطارها؟
لقد توجه مصرف لبنان في السنوات الاخيرة إلى التدخل بقوة في موضوع الإنماء الإقتصادي، وسعى لأن يعوض عن قصور الإستثمارات وتراجعها في لبنان نتيجة الوضع السياسي والامني المتفجر في المنطقة ومن دون أن ننسى أن عدد النازحين السوريين أصبح يوازي ربع سكان لبنان، وهذا يلقي أعباء كبيرة على الاقتصاد اللبناني وعلى البنية التحتية في لبنان.
كما أن مصرف لبنان سعى إلى خلق سياسات تعوض عن الضمور الحاصل في موضوع الإستثمار الخاص من أجل إعطاء حوافز تشجع المصارف على التسليف بفوائد مدعومة، وتشجع أيضا المستثمرين على الإفادة من هذه الفرص للدخول في عمليات محددة من شأنها زيادة الإنتاجية والإستثمار نوعاً وكمية.
وعليه، فإننا أمام توجه جديد في دور السلطة النقدية، ساعد على خلق نمو إضافي في البلد، بعدما كاد النمو ينعدم بصورة كاملة، فالسياسات الإنمائية والدور الذي قام به مصرف لبنان بتقديمه حوافز للمصارف وإعطائه إمكانيات إضافية على السيولة التي بين أيديها، ساعد بالفعل في تنشيط عمليات التوظيف والإستثمار، وهذه الحوافز بما أن معظمها حصل بالليرة اللبنانية، فإن ذلك عزَّز الثقة بالليرة كأداة إستثمار ولم تعد الليرة فقط أداة إدخار، بل أضحت أداة للإدخار والاستثمار في آن.
الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب بدأ ينتشر ويتوسع وهناك إهتمام كبير من المصرفيين بالإنضمام اليه. هل هناك من خطوات مرتقبة على هذا الصعيد. وهل تفكر بصفتك رئيساً لهذا الاتحاد بخطوات نوعية معينة؟
أنا على يقين أن المصارف العربية قد أبقت على ثقتها كاملة بالمصارف اللبنانية، بمعنى أن التعامل بين المصارف اللبنانية والمصارف العربية يجري بالراحة الكاملة والثقة والاطمئنان المتبادل، وهذا كسب كبير للبنان الذي هو في أزمة سياسية وهذا التوجه هو بادرة نقدرها للمصارف العربية التي لا تنظر إلى الوضع السياسي في لبنان، بل إلى الأداء المصرفي على أساس أنه أداء ممتاز وأثبت أن مصارف لبنان هي من أقوى المصارف العربية، لأنها تعمل في بيئة غير مناسبة وتنجح، مقارنة مع المصارف الناجحة التي تعمل في بيئة جيدة. وإذا كنّا نعمل في بيئة غير مناسبة وننجح، معنى ذلك أن لدينا قدرات قوية جداً، فكيف إذا عادت البيئة إلى طبيعتها وعاد الإستقرار كاملا إلى منطقة المشرق العربي وإلى لبنان.
كذلك، فالإتحاد الدولي للمصرفيين العرب يضم ضمن عضويته الرموز القيادية للعمل المصرفي العربي على مساحة الوطن العربي بكامله، وهذا عودة إلى كلامي السابق بأن الاقتصاد يجمع والسياسة تفرق، ونحن نجمع ضمن عضوية مصارفنا رجال المصارف الذين ينتسبون إلى دول تتصارع في ما بينها في الوقت الحاضر، بينما المصرفيون والخبراء على أتم ما يمكن من الإتفاق والتكامل، وأيضا المشاركة في المؤتمرات والتدريب وفي خلق فرق العمل المتخصصة على مساحة العالم العربي بأجمعه، بحيث أصبح الإتحاد يشكل مجموعة مهنية الأقوى في العالم العربي وصاحبة النفوذ الاول، لأنها تضم شخصيات الدرجة الاولى على الصعيد الإقتصادي والمصرفي والمالي. ولا أقول فقط في القطاع الخاص بل في القطاع العام، ونعتز أيضا بوجود معظم محافظي البنوك المركزية العربية كأعضاء في الإتحاد.
وهنا أشير إلى أن العضوية في الإتحاد لمستمرة حتى لو فقد العضو موقعه المصرفي، وتحول إلى موقع مالي أو سياسي آخر، وهناك قسم كبير من زملائنا ينتقلون بعد فترة إلى عمل آخر ، إما إلى العمل السياسي كوزراء أو كحكام أو محافظي بنوك مركزية، أو كرؤساء مؤسسات إستثمار، وأحياناً ينتقلون إلى رئاسة مؤسسات مصرفية دولية لكنهم يستمرون أعضاء في الإتحاد. وهذا الموضوع يخلق وشائج إنتماء مستمرة وليست مقتصرة فقط على مرحلة وظيفية عابرة.
رجاء كموني