يبقى القطاع المصرفيّ اللبناني المحرّك الأساسيّ للعجلة الإقتصاديّة، إذ برهن عبر التاريخ عن قدرته على استيعاب شتّى الصدمات رغم المخاطر الإقتصاديّة والجيوسياسيّة المُحدقة بالمنطقة.
بالأرقام التي يشير اليها رئيس جمعية المصارف الدكتور جوزف طربيه، تظهر الميزانيّة المجمَّعة للمصارف التجاريّة العاملة في لبنان زيادةً في الموجودات بلغت نسبتها 5.65% خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري إلى حوالى 232.29 مليار دولار، كما ارتفعت ودائع الزبائن في القطاع المصرفي 1.96% منذ مطلع العام إلى 176.35 مليار دولار في نهاية أيّار، واستقرت محفظة التسليفات الصافية عند 59.45 مليار دولار، مع فقدان نموها هذا العام.
ويؤكد طربيه ان نسب السيولة في القطاع المصرفي لا تزال عالية جدّاً بحيث تجاوز معدّل السيولة الأوَّليّة عتبة الـ 80%، ما يُساعد في درء أيّة مخاطر غير مُتَوَقَّعة. ويصف الضغوط السياسية في لبنان بـ"المعتدلة" على ضوء ما يحدث في المنطقة. أما التأخير في تأليف الحكومة فهو "حدث عابر إذ في النتيجة سينجح لبنان في تأليف حكومة توافقية بعدما نجح في إجراء انتخابات نيابية. والمهم أن تأتي الحكومة ببرنامج عمل يعالج الملفات الحيوية التي لم تلاقِ معالجة منذ زمن بعيد، وتعيد تنشيط الإقتصاد". ويقول: "أودّ أن أُعبّر هنا عن تفاؤلنا بقدرة الإقتصاد اللبناني على النهوض، إذ إنّنا أمام فرصة حقيقيّة لتحقيق مستقبل كبير إنْ عبر تنفيذ مخطّطات مؤتمر سيدر، أم بدء عمليّات استخراج النفط من المياه الإقليميّة اللبنانيّة. ومع قرب نهاية الحرب السورية، نتوقّع أن يكون للبنان وقطاعه المصرفي دور مهمّ في عمليّة إعادة الإعمار، وإعادة فتح معبر نصيب الحدودي المُرتقبة ستُعيد إحياء الصادرات البريّة اللبنانيّة إلى دول الخليج وبالتالي حركة التجارة البينيّة والدور الذي تلعبه المصارف في هذا الإطار".
السلسلة والاعباء الضريبية
وبالحديث عن تداعيات سلسلة الرتب والرواتب والاعباء الضريبية التي نتجت منها، يعتبر طربيه أن "تحسين رواتب القطاع العام قضية محقة، ولكنها أتت دون الإصلاحات المطلوبة، وفوق قدرة المالية العامة والإقتصاد على تحمّلها. أما تأثيراتها الاقتصادية فأتت سلبية باعتراف كل المسؤولين، إذ ستؤدي، مع ما رافقها من فقدان النمو، الى انحدار كبير في المالية العامة سيترك آثاره السلبية على مختلف القضايا ومنها عجز الدولة عن الإستمرار في دعم التسليف السكاني، وتشديد الأعباء الضريبية على الإقتصاد المأزوم، وخصوصا على القطاع المصرفي، ما اضطر مصرف لبنان الى ابتداع الهندسات المالية ليستمر القطاع جاذباً للسيولة في وقت تتنافس المصارف في العالم لجذب السيولة اليها".
بين الالتزام والضغوط الخارجية
"يبقى القطاع المصرفي شديد الحرص على التزامه القوانين والتشريعات الدوليّة"، هذا ما يؤكده مرة جديدة طربيه، "وبخاصّة قانون الإمتثال الضريبي "فاتكا" وتبادل المعلومات الضريبيّة تحت إطار إتّفاقيّة "غاتكا" للإمتثال الضريبي، والقوانين والمعايير التي تتعلّق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وإدارة المخاطر والحوكمة الرشيدة وغيرها. وقد حافظ ذلك، ولا يزال، على صورة المصارف اللبنانيّة وسُمعتها دوليا. ونظّمت جمعيّة المصارف زيارات عدّة في إطار برنامج الإتصالات الدوريّة مع مراكز القرار الأميركيّة ومع المنظّمات الدوليّة المعنيّة بالشؤون الماليّة والمصرفيّة. وكانت هذه الزيارات مناسبة جدّدت فيها المرجعيّات الخارجيّة تقديرها لحسن أداء القطاع المصرفي اللبناني في تطبيق قواعد الإمتثال، كما أعربت المصارف الأميركيّة المُراسلة عن ارتياحها للتعامل مع النظام المصرفي اللبناني إستناداً إلى عاملين:
- حسن إدارة المخاطر من قبل المصارف العاملة في لبنان.
- إلتزام المصارف اللبنانيّة قواعد العمل المصرفي الدولي، بما فيها القواعد الأميركيّة".
المصارف تشارك في المشاريع الاستثمارية
ثمة دور اساسي للمصارف ضمن المشاريع الإستثماريّة التي أُقرَّت في المؤتمرات الدوليّة، ومن هنا يُرتقَب أن يكون دور المصارف اللبنانيّة ضمن المشاريع الإستثماريّة هو الوساطة في تحويل الأموال من قِبَل المُقرضين والمانحين الدوليّين إلى البلاد عبرها. من منظارٍ آخر، يذكر طربيه أنّ "دور القطاع المصرفي ليس إدارة المشاريع الإستثماريّة المعنيّة، إذ إنّ إدارة هذه المشاريع ستكون مسؤوليّة إمّا الدولة اللبنانيّة أو شريك من القطاع الخاصّ ضمن مشاريع الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ. ويشكِّل قانون الشراكة بين القطاعين توازياً مع الإنجازات المختلفة التي شَهِدَها الإقتصاد اللبناني في الآونة الأخيرة لجهة إطلاق مشاريع شراكة وخصخصة في قطاعاتٍ عدّة، حجر الأساس في رحلة لبنان الإصلاحيّة لإنعاش الإقتصاد اللبناني. فبموجب هذا القانون، يُعدُّ المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة الطرف المخوَّل الموافقة على المشاريع وإطلاقها وإدارتها ويلعب دور صلة الوصل بين القطاع الخاصّ والهيئات الحكوميّة. ويتضمّن القانون المذكور سلسلة من المعايير والآليّات التي تضمن الشفافية، والرقابة الفعّالة، والنزاهة، والإحترافيّة في أيّ شراكة تقوم بين القطاعين العامّ والخاص. غير أنّ هذه الإنجازات وحدها، وعلى رغم أهمّيّتها، تبقى غير كافيةٍ للخروج من دوّامة الركود التي يتخبّط بها الإقتصاد. فَعَلى مشاريع الشراكة ومشاريع الخصخصة أن تترافق مع وضع تدابير إصلاحيّة أُخرى موجَّهة نحو تحسين الماليّة العامّة في البلاد وتطبيقها، بما فيها ترشيد الإنفاق، ومكافحة الهدر والفساد، وتحسين عمليّة تحصيل الضرائب وغيرها".
سياسة مصرف لبنان ودوره
يساهم دور مصرف لبنان وسياسته في الحفاظ على الإستقرار النقدي وسلامة القطاع المصرفي. ففي غياب السياسة المالية والسياسة الإقتصاديّة الشاملة للدولة، ظلّت السياسة النقدية للمصرف المركزي وتدخُّلاته الإنقاذيّة والتحفيزيّة نقاط ارتكاز أساسية للقطاع المصرفي وللقطاعات الرئيسيّة الأُخرى، وهو الذي نال وحاكمه استحسانا وإشادة من أهمّ المؤسّسات المالية الدوليّة. وعلى رغم الأوضاع السياسيّة والجيوسياسيّة غير المستقرّة والتحدّيات الإقتصاديّة والماليّة الكبيرة، نجح المركزي في تعزيز احتياطاته بالعملة الأجنبيّة وكذلك الثقّة بالقطاع المصرفي اللبناني والليرة اللبنانيّة.