كلمة رئيس جمعية مصارف لبنان
الدكتور جوزف طربيه
في المؤتمر الصحافي
الصيفي – بيروت
في 2 آب 2018
زملائي المصرفيّين،
أيّها الإعلاميّون الكرام،
يسرّني أن أستضيفكم مجدّداً في رحاب جمعيّة مصارف لبنان شاكراً لكم تلبية دعوتنا الى هذا المؤتمر الصحافي الذي نتناول فيه بعض المستجدات على الصعيد المصرفي التي تهم الرأي العام اللبناني والخارجي.
أولاً : في استهداف القطاع المصرفي اللبناني
تعرّض القطاع المصرفي اللبناني في الفترة الاخيرة الى استهداف خطير من اجل المس بسمعته ومناعته. وعلى الرغم أن الحملة على القطاع لم تكن مبنية على حقائق او وقائع ثابتة، إلا أن انتشار الإشاعات في عالم التواصل السريع والفضاء الافتراضي له تاثيراته المضللة على شرائح كثيرة من عملاء مصارفنا، المقيمين وغير المقيمين، ويخلق جواً من الارتباك والحيرة ينعكس سلباً على حركتي الادخار والاستثمار في البلاد. لذلك راينا من الواجب ان نلبي حاجة المواطنين والرأي العام الى معرفة الحقائق والاطلاع على المعلومات الموثوقة والمطَمئِنة.
فقد تعرّض مؤخّراً عدد من المصارف اللبنانية، لحملات افتراء واضحة استُخدمت فيها بعض وسائل الإعلام، وفي معظم الأحيان وسائل التواصل الإجتماعي، وركّزت على أداء فروع المصارف العاملة في دولة العراق الشقيقة، فأحدثت نوعاً من البلبلة في نفوس المواطنين. غير أن الجهود المشتركة التي قامت بها الأجهزة الأمنية المختصّة في لبنان والعراق، أدّت الى الكشف عن شبكة من مرتكبي أعمال الإحتيال ومروّجي الأخبار الكاذبة والملفّقة بهدف الابتزاز والنيل من سمعة قطاعنا المصرفي، الذي أثبت ولا يزال يثبت تقيّده التام بأصول ومتطلّبات العمل المصرفي السليم والتزامه الكامل والمطلق بقواعد ومعايير الشفافية والإدارة الرشيدة ومكافحة تبييض الأموال وأعمال الإرهاب ومختلف أنواع الجرائم المالية. ويسرنا في هذه المناسبة توجيه خالص عبارات الشكر والتقدير للأجهزة الأمنية المختصّة في العراق ولبنان، وعلى الأخص لسعادة اللواء عباس ابراهيم ومساعيه الحثيثة والمثمرة، مجدّدين دعوة جميع المواطنين في لبنان والعراق وجميع لبنانيّي الانتشار ومواطني العالم العربي الواسع للتحلّي، كالمعتاد، بالثقة الكاملة بأداء قطاعنا المصرفي الذي برهن على مرّ العقود الماضية عن مناعة راسخة في مواجهة كافة التحديات المحلية والإقليمية والدولية، والذي لا تهزّه ولن تهزّه شائعة من هنا أو خبر ملفَّق من هناك. يبقى أن حكمة السلطات النقدية ويقظة السلطات الامنية والسلطات الرقابيّة كفيلٌ بصون الإستقرار النقدي على نحو مستدام، وبحماية النظام المصرفي اللبناني ومصالح المستثمرين والمودعين كافة.
ثانياً: في القروض المصرفيّة والسكنيّة
يحتل التسليف السكني موقعاً مركزياً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وهو من مقومات الاستقرار ويلقى الدعم والتشجيع في مختلف الدول لما يشكله المسكن من حاجة جوهرية لكل مواطن.
ومعلوم أن السياسة الإسكانية تندرج مبدئياً ضمن مهام السلطتين التنفيذية والتشريعيّة. غير أن غياب مثل هذه السياسة في لبنان منذ عقود، وضغوط الأوضاع الإجتماعية للشباب اللبناني الراغب في الإستقرار الأُسري، لا سيّما بعد انتهاء الحرب، دفعا السلطة النقدية الى المبادرة الى سد الفراغ والى اتّخاذ قرارات من شأنها توفير التسليف السكني لشرائح واسعة من اللبنانيّين، وتنشيط حركة قطاع العقارات والبناء، وتوجيه الموارد المصرفية في هذا الاتجاه.
وقد تُرجمت هذه السياسة بصيغ متعدّدة ومتنوعة من القروض المصرفية المدعومة، علماً أنه يمكن تصنيف القروض المدعومة عموماً بثلاث فئات هي:
1- القروض المدعومة الفوائد، إلى القطاعات المنتجة والتي بلغت قيمتها منذ العام 1997 ما يزيد عن 7,3 مليار دولار حتى نهاية العام 2017 واستفادت منها الاف المؤسسات اللبنانية، وتوزّعت بوجه خاص على قطاع الصناعة بنسبة 59% والسياحة بنسبة 30% والقطاع الزراعي بنسبة11%، وهي تشمل القروض المدعومة الفوائد وكذلك تلك الحائزة على ضمانة شركة "كفالات"، ويستفيد بعضها من تخفيضات في مجال الإحتياطي الإلزامي.
وللتذكير وخلافاً لما يشاع فإن قروض الدعم للقطاعات المنتجة أُقِرَّتْ بناءً على قانون الموازنة العامة في 1997 أوكل أمر وضعها موضع التنفيذ للبنك المركزي الذي أصدر في حينه قراراً تنظيمياً تحت الرقم 6549 تاريخ 10 نيسان 1997 يحدد شروط الدعم. وللتذكير أيضاً فإن الدعم يطاول معدَّل الفائدة وطبعاً ليس مبلغ القرض الذي يبقى كليةً على مسؤولية المصرف المقرض وضمن مخاطره.
2- القروض غير المدعومة الفوائد والتي تستفيد من تخفيض إمّا من صلب الإحتياطي الإلزامي أو من الإلتزامات الخاضعة للإحتياطي الإلزامي، وقاربت قيمتها 7,9 مليار دولار. لكنّ العمل بهذه الآلية توقّف في تشرين الأول 2017 بموجب التعميم الوسيط رقم 475 الصادر عن مصرف لبنان.
3- القروض غير المدعومة الفوائد، والتي لا تستفيد من تخفيضات في مجال الإحتياطي الإلزامي، وهي التي تُعرف بالرزم التحفيزية التي أطلقها مصرف لبنان في العام 2013. وقد بلغت قيمة هذه القروض حتى نهاية العام 2017 حوالي 5,2 مليارات دولار. مع الإشارة إلى تغيّر آلية الحوافز التي يوفّرها مصرف لبنان للمصارف بحيث أصبحت تقضي بأن يدعم مصرف لبنان الفوائد وأن تمنح المصارف القروض من مواردها الخاصة، وذلك منذ أوائل العام 2018.
ومن المقدّر أن تكون القروض السكنية المدعومة وفق الصيغتين 2 و3 أعلاه ، سواء من خلال الإحتياطي الإلزامي أو من خلال الرزم التحفيزية، قد ناهزت الـ 9,5 مليارات دولار (أي حوالي 75% من القروض السكنية الإجمالية) في نهاية العام الفائت.
أيّها السيّدات والسادة،
ان التسليف الذي تقدمه المصارف لا ينحصر بالطبع بالتسليف السكني، والتسليف الاجتماعي، بل تلعب المصارف دوراً هاماً في تمويل كل الاقتصاد، ومنه القطاع العقاري، حيث ارتبط الازدهار في لبنان غالباً بإزدهار التوظيف العقاري ومشاريع البناء بكل الاحجام والانواع. وقد اتى التسليف الاسكاني بغالبيته لمصلحة ذوي الدخل المحدود حيث استفاد منه الآلوف من أبناء هذه الفئات الاجتماعية، ووصل مجموع المواطنين اللبنانيين الذين استفادوا من هذه القروض السكنية بمختلف صيغها حوالي 131000 مواطناً (ماية وواحد وثلاثون الف) توافرت لهم شروط الإستقرار الإجتماعي والأُسري اللائق، وباتوا من الملاّكين العقاريّين.
ومعلوم أن جمعية مصارف لبنان وقّعت طوال العقدين المنصرمين عدداً من بروتوكولات التعاون لدعم تسليف بعض الفئات التي لها دور استراتيجي في خدمة لبنان، وفي مقدمتها الاجهزة القضائية والعسكرية والامنية، كما مع المؤسّسة العامة للإسكان، في إطار السياسة التحفيزية التي أطلقها المصرف المركزي لدعم القطاع السكني. وفي هذا السياق، يندرج البروتوكول الموقّع مع الجسم القضائي تعزيزاً لاستقلالية السلطة القضائية وحرصاً على تفعيل أداء القضاء والمحاكم اللبنانية وتوفيراً لشروط السكن اللائق للقضاة. وتجدر الإشارة هنا الى أن البروتوكول الموقَّع مع صندوق تعاضد القضاة يؤمّن للمصارف ثلاث ضمانات لقاء قروضها السكنية: توطين راتب القاضي المستفيد من القرض السكني، الرهن على الحيازة العقارية موضوع القرض، وكفالة صندوق تعاضد القضاة بعد تقاعد القاضي المستفيد.
استناداً الى كل ما أوردناه أعلاه، يتبيّن أن آلاف المؤسّسات في القطاعات المنتجة وألاف الاسر اللبنانية استفادت من القروض المدعومة. فنرجو أن يُعرف ذلك ويُقدر هذا الانجاز من جميع اللبنانيين.
يبقى أن إيجاد آليات جديدة لتفعيل الإقراض السكني هو أولاً رهن السياسة الإسكانية التي من المرتقب أن تضعها الحكومة المقبلة، والمصارف على أتمّ الإستعداد، كعادتها، لتأدية دور ناشط وفعّال من أجل إنجاح هذه السياسة. ثمّ أن حاكم مصرف لبنان أكّد مؤخّراً أن " الأيام المقبلة ستحمل المزيد من الرزم المالية لدعم القروض، وبخاصة السكنية منها، ولكن يبقى حجم هذا الدعم والأموال المخصّصة له تحت سقف عدم المسّ بالإستقرار النقدي".
ثالثاً: في الوضع الإقتصادي والمصرفي العام
يعلم الجميع أن الاقتصاد يسجّل معدل نمو ضعيفاً قد لا يتجاوز 2% في العام الحالي، حسب مختلف التوقّعات. وتشير المعطيات المتوافرة منذ بداية السنة إلى تفاوت في أداء مؤشّرات القطاع الحقيقي خلال النصف الأول من 2018، فثمّة إشارات إيجابيّة تتمثّل في حركة السياحة وأخرى سلبية تتمثّل في تراجع الحركة في القطاع العقاري.
ولكن، بالرغم من ضعف النمو الاقتصادي، فقد سجَّل قطاعنا المصرفي نمواً في موجوداته الإجمالية بلغت نسبته 5,7% خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة الحالية فيما نمت الودائع بنسبة 2,0% أي بنسبة نمو قريبة (2,4%) في الفترة ذاتها من العام 2017، ويعني هذا المعدَّل ازدياداً في حجم الودائع بما يناهز 3,4 مليارات دولار في الأشهر الخمسة الأولى من السنة الجارية، وهو حجم كافٍ لتغطية الاحتياجات التمويلية للإقتصاد الوطني بقطاعَيْه العام والخاص.
أما رساميلنا وأموالنا الخاصة، فقد قاربت مستوىً تاريخياً بلغ 20,7 مليار دولار في نهاية أيار 2018 ، وتكتسب هذه الأموال الخاصة أهمية كبرى لجهة تعزيز ثقة المودع المحلّي والأجنبي بالقطاع المصرفي اللبناني، كما أنها تقوّي المراكز المالية للمصارف بحيث من المقدّر أن يكون معدل الملاءة في القطاع قد فاق الـ 15 % في الوقت الراهن.
من جهة أخرى، فإن إجمالي قروض المصارف التجارية للقطاع الخاص، المقيم وغير المقيم، من دون احتساب محفظة الأوراق المالية، قارب 59,5 مليار دولار في نهاية أيار 2018.
ولم تترافق التسليفات المصرفية مع أيّ تدهور في نوعية محفظة الإقراض للقطاع الخاص، إذ بقيت نسبة الديون الصافية غير العاملة (NPL’S) إلى إجمالي المحفظة في مستوى متدنٍّ وبحدود 4%.
أخيراً، على صعيد تمويل القطاع العام، لا يزال القطاع المصرفي المموِّل الأول للدولة رغم ارتفاع مخاطر البلد السيادية.
أيّها السيّدات والسادة،
إن لبنان بحاجة الى ورشة تشريعية كبرى والى ورشة نهوض اقتصادي متمحورة حول برنامج الإنفاق الإستثماري المرفوع الى مؤتمر باريس الأخير(سيدر). ولا شكّ في أن إطلاق هاتين الورشتين، مع ما قد يحملهما من انعكاسات إيجابية على الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية العامة ، رهن تشكيل الحكومة العتيدة، التي نرجو ألاّ يطول انتظارها.
ومن جهتنا، نجدّد التأكيد أن القطاع المصرفي اللبناني يشكّل الركيزة الأساسيّة للاستقرار الإقتصادي المالي والإجتماعي في البلاد، وهو أيضاً دعامة دائمة للاستقرار الأمني الذي يضمنه ويظلّله الجيش اللبناني وسائر المؤسّسات العسكرية والأمنية الشرعية. ونغتنم هذه المناسبة لنقدِّم للجيش اللبناني أسمى عبارات التقدير والتهنئة بعيده الثالث والسبعين. ففي العالم الثالث النامي، قليلة هي الدول التي لجيوشها هذا القِدَم والأصالة.
وتثبت المعطيات المعروضة أعلاه أن القطاع المصرفي اللبناني لا يزال يتمتّع بمناعة راسخة في وجه التحدّيات الداخلية والخارجية، وعن قدرة واضحة على التكيّف مع أصعب الظروف السياسية والأمنية والإقتصادية وأكثرها تعقيداً. فالنتائج التي يحقّقها قطاعنا إيجابية وجيّدة في ظلّ الأوضاع التي تعيشها البلاد ووسط الحروب والإضطرابات التي تعانيها المنطقة.
وبقدر ما تقتضي المسؤولية الوطنية والمهنية من إدارات المصارف التزام أصول العمل المصرفي السليم وقواعد الشفافية والإدارة الرشيدة والقوانين المحلية والدولية المرعيّة، بقدر ما تقتضي المسؤولية الوطنية والمهنية أيضاً ان يجري التذكير دائماً بهذه الحقائق من قبل كافة وسائل الاعلام تعزيزاً للثقة بالقطاع المصرفي بما فيه خدمة لبنان واقتصاده.
شكراً لحضوركـم...