أيّها الزملاء الكرام،
بإسمي الشخصي وبإسم مجلس الإدارة، أرحّب بكم في مستهلّ الجمعية العموميّة السنوية السادسة والخمسين لجمعية مصارف لبنان.
إن تقرير مجلس الإدارة الموزّع عليكم يعرض لأداء الجمعية ونشاطها بشكل وافٍ منذ انعقاد الجمعية العمومية الأخيرة في 30 حزيران 2017. لذا، لن أخوض في تفاصيل محتوياته، بل سأكتفي بإيجاز أبرز التطورات التي رافقت عملنا، وما أنجزته جمعيتُنا خلال النصف الأول من ولاية مجلس إدارتنا الحالي.
السيدات والسادة الزملاء الكرام،
لقد استمر القطاع المصرفي في إدائه المميز على الرغم من الظروف الداخلية والخارجية الصعبة. ففي الخارج، تنامت التوجّهات نحو مزيد من العقوبات الأميركية. فكان لا بدّ من حركة اتصالات دوليّة عبر زيارات مباشرة واجتماعات مكثّفة قمنا بها كرئاسة وكمجلس مع بعض مواقع القرار في الولايات المتحدة الأميركية، كما في البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية الإقتصادية وكبريات العواصم الأوروبية والمصارف العالمية المراسلة لمصارفنا. وقد حرصنا في كل تلك اللقاءات على إطلاع الجهات الخارجية على نشاط الجمعية وإبراز أهمية القطاع المصرفي اللبناني ودوره الحيوي في استقرار لبنان، مع التركيز على تبيان الجهود المبذولة محلياً في مجال مكافحة تبييض الأموال ومحاربة الإرهاب والمستندة الى عمل إداري وتدريبي منظّم ومتواصل والى تعاون مع الجهات الدولية المختصّة ضمن مبادىء وقواعد عملها على هذا الصعيد، ومع التشديد على التزام قطاعنا المصرفي في تطبيق قواعد الإمتثال من خلال الآلية التي وضعها البنك المركزي اللبناني وقبول المرجعيّات الدولية بها، بما فيها وزارة الخزانة الأميركية.
أما على الصعيد الداخلي، فتواصلت الضغوطات الضريبيّة على القطاع لا سيّما قبيل الإنتخابات النيابية. فقد صدر في العام 2017 القانون رقم 64 الذي استحدث سيلاً من الضرائب الجديدة التي إنعكست بمعظمها على القطاع المصرفي، فإرتفعت اسعار الفوائد، ورفعت معها كلفة تمويل الاقتصاد بمختلف قطاعاته. وتضمّن القانون ثلاثة تعديلات أساسيّة على المادة 51 من القانون رقم 497/2003 المتعلّق بالضريبة على الفوائد. فجاء في أول هذه التعديلات أن ضريبة الفوائد على المصارف (7% حالياً) تُعتبر عبئاً ينزَّل من المداخيل وليس ضريبة تُقتطع مسبقاً وتنزَّل من ضريبة الأرباح. فأحدث التعديل ازدواجاً ضريبياً مستغرباً. أما التعديل الثاني، فتمثّل في توسيع نطاق هذه الضريبة الى شهادات الإيداع بالليرة وبالدولار التي يصدرها البنك المركزي وتكتتب بها المصارف. ثم أُلحقت التعديلات المشار إليها بواحدة غير مسبوقة في العالم، طاولت عمليات الإنتربنك بين المصارف وبين مصرف لبنان. مما رفع عملياً الضرائب على المصارف الى مستويات قياسية.
ورغم اعتراضات الجمعيّة لدى السلطات المختصّة على هذه الضرائب المؤذية للاقتصاد اللبناني والقطاع المصرفي، والاتصالات المكثفة التي قمنا بها مع المسؤولين المعنيّين، وبخاصة لمعالجة مشكلة الضريبة على عملياتنا مع البنك المركزي ، لا تزال الأمور تراوح مكانها، مع ما يخلّفه ذلك من انعكاسات على الإستثمار المصرفي.
أيّها السادة الزملاء،
مقابل معدَّل نمو قدره 3,8% للاقتصاد العالمي، راوحت تقديرات معدل نمو الإقتصاد اللبناني في العام 2017 بين 1,2% و2,5% بحسب اختلاف المصادر. وفي مطلق الأحوال، يبقى هذا النمو غير كاف لتأمين فرص عمل جديدة بالوتيرة المطلوبة ولتعزيز الرفاهية الإقتصادية. ولا شكّ في أن لبنان حقّق إنجازات في العام المنصرم، تمثّلت بإقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وانطلاق عمليات الإستكشاف وتلزيم النفط وإقرار أول موازنة عامة بعد 12 سنة من الإنقطاع، بالإضافة الى إقرار قانون الإنتخابات النيابية، وهي كلّها خطوات تؤسّس لإنتظام عمل المؤسّسات كمدخل للسعي الى تكبير حجم الإقتصاد وتفعيل أدائه، شرط أن تواكبها وتتبعها رزمة من الإصلاحات الإدارية والمالية والبنيوية، تعهّد بها لبنان تجاه المؤتمرات الدولية الثلاثة التي انعقدت لدعمه في باريس وروما وبروكسيل. كما نجح القطاع المصرفي بادائه المتميز بالحفاظ على استمرار الثقة به، إذ استمرت تحويلات العاملين في الخارج الى لبنان في مستواها المقبول. كما تابعت التسليفات المصرفية ارتفاعها، ولو بنسبة معتدلة، فساهمت هذه التدفقات معاً في دعم الحركة الإستهلاكية والإستثمارية.
في المقابل، شهدت المديونيّة العامة في 2017 تطوراً سلبياً، إذ ارتفع الدين العام بنسبة تزيد عن 6 % قياساً على العام الذي سبق. وتجاوز نمو الدين العام الى حدّ كبير معدل النمو الإقتصادي في العام 2017 بحيث ارتفعت نسبتُه الى ما يقارب 151% من الناتج المحلي الإجمالي، ما ينطوي على أكلاف باهظة في غياب المعالجات، ويستدعي بالتالي برنامجاً للتصحيح المالي طال انتظاره لتثبيت مستوى المديونية ومن ثم تراجعها.
على صعيدٍ آخر، شهد الوضع النقدي في العام 2017 فترة وجيزة من القلق جراء الإستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة، غير أن السلطات النقدية استطاعت، بالتعاون مع وزارة المالية والمصارف، الحفاظ على الإستقرار النقدي، وعلى أسعار الصرف، فأظهرت مرةّ جديدة القدرة على الصمود في وجه الأزمات ولو باكلاف متزايدة. وكان من الطبيعي، في هذا المناخ السياسي الضاغط، أن يأخذ معدل الفائدة بين المصارف منحىً تصاعدياً بوتيرة استثنائية نظراً لوضع السيولة في سوق الليرة اللبنانية ونظراً للتدابير التي اتّخذتها السلطة النقدية في نطاق إدارة السيولة، لكي تؤمّن الإنضباط في الأسواق.
في هذا السياق، تمّ تسجيل خروج ودائع بأحجام غير مؤثّرة لم تتعدَّ 2% من المجموع، كما ارتفعت معدلات الفوائد المصرفية خصوصاً الدائنة منها بحيث ازدادت الفوائد على الودائع بالليرة بحوالى 200 الى 300 نقطة أساس لتشجيع المودع على إبقاء ودائعه بالعملة الوطنية عند استحقاقها بل على إطالة آجالها. كما ارتفعت الفوائد على الدولار الأميركي، إنما على نحو أقلّ ليس فقط للحدّ من تحويل الأموال الى الخارج بل لإجتذابها، في حين حافظت معدلات الفائدة على سندات الخزينة على مستواها.
وفي ظل استتباب الوضع السياسي الناشىء، عاود مصرف لبنان عملياته المالية الإستباقية مع المصارف، ما سمح باستقطاب مزيد من الأموال الوافدة وتعزيز موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية وسندات اليوروبوند التي وصلت في نهاية العام 2017 الى 42,0 مليار دولار أميركي.
وبالإضافة الى مساهمتنا الفاعلة في الإستقرار النقدي وبانتظار تفعيل الأسواق المالية، استمرّت مصارفنا في توفير التمويل للإقتصاد الوطني بحجمٍ كافٍ وبكلفة مقبولة قياساً على ما هو سائد في دولٍ تتمتّع بتصنيف أفضل لمخاطرها السيادية. وخير معبّر عن ذلك حجم التسليفات للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم ، والذي تخطّى 60 مليـار دولار في نهايـة العـام 2017 مشكّلاً ما نسبتُه 115% من الناتج المحلي الإجمالي. ولا يزال القطاع المصرفي يتمتّع بالقدرة التمويلية لمواكبة المشاريع الحكومية، بما فيها مشاريع الشراكة المرتقبة بين القطاعين العام والخاص، ما قد يشكّل عاملاً أساسياً لإنجاح تنفيذ الرؤية الإقتصادية الموضوعة من قبل الحكومة.
أيّها الزملاء،
إننا إذ نُثـني على الجهود التي بُذلت لإقرار موازنة العام 2018 بعد إقرار موازنة العام 2017 نأمل عدم العودة بانتظام الى نهج الإنفاق على أساس القاعدة الإثنَيْ عشرية والاعتمادات من خارج الموازنة، كما نرجو نجاح المساعي لإيجاد حلّ دستوري وقانوني لقطع الحساب عن السنوات السابقة.
وإننا إذ نكرّر التهاني للعهد والحكومة المستقيلة على الإنجاز الوطني الهام المتمثّل بإجراء الإنتخابات النيابية بعد طول انتظار، لا يسعنا غير أن نشاطر سائر المواطنين تطلّعاتهم الى الإسراع في تأليف حكومة معبّرة عن آمال الناس، وتُعطى الأولوية للعناية الفائقة بالوضع الاقتصادي في ظلّ تردّي الأوضاع المحلية والإقليمية وتعاظم ارتداداتها السلبيّة على الداخل اللبناني.
فاستعادة موقع لبنان الإقتصادي على خريطة المنطقة وإعادة علاقاته مع محيطه العربي الى زخمها المعهود، وتعزيز علاقاته مع مختلف الأسواق الإقليمية والدولية، وتوفير مقوّمات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتأمين المحفّزات الضرورية لاستقطاب الموارد الخارجية والاستثمارات الأجنبية، ومعالجة مكامن الهدر في المال العام، ومكافحة الفساد المستشري في مختلف هيكليّات الدولة، وتحديث أداء الإدارة العامة، وتفعيل إنتاجية المرافق العامة، وتحسين جودة وكلفة الخدمات المقدّمة للمواطن، وحماية حقوق المستهلك، وتعزيز القدرة التنافسية للصناعة اللبنانية والحفاظ على الطبقة المتوسطة كنواةٍ صلبة للنمو المطّرد باتت كلّها من أمّهات المسائل التي يتعيّن إدراجها في صدارة جدول أعمال مختلف السلطات والوزارات المعنيّة. وتأمل الجمعية أن تحتلّ هذه القضايا حيّزاً محورياً في اهتمامات الحكومة المقبلة بحيث يحرص أصحاب القرار السياسي على عدم تفويت المزيد من الفرص وعدم تسجيل المزيد من التأخّر في تحقيق مؤشّرات النمو الممكنة وفي بلورة الآفاق المستقبلية الواعدة لجيل الشباب اللبناني.
وإننا نجدّد في هذا المجال الإعراب عن كامل استعداد المصارف للمشاركة في الورشة الوطنية لتحقيق الرؤية الإقتصادية-الإجتماعية التي حازت على تقدير الأوساط العربية والدولية المانحة والداعمة، والتي يتوقف على حسن وسرعة تنفيذها تكبير حجم الإقتصاد وتنشيطه وتحفيز النمو الإقتصادي المستدام.
أيّها الزملاء،
لقد واصلت الجمعية تأكيـد التزامها بالشأن الوطني العـام، مع إبـداء حرصها على تكثيف حضورهـا وتعزيـز موقعهـا المرجعي كإحدى الهيئات الإقتصادية الأساسيّة فـي لبنـان، وتعزيز مشاركتها في المؤتمرات والمحافل الإقليمية والدولية واستضافتها العديد من رؤساء البعثات الديبلوماسية المعتمدة في لبنان ومن الوفود المصرفية العربية والأجنبية، وتوزيع منشوراتها ونتائج دراساتها، وتوثيق علاقاتها التفاعلية الإيجابية مع وسائل الإعلام كافة ، وإغناء محتويات موقعها على شبكة الإنترنيت مع تأمين نافذة جديدة لها على شبكات التواصل الإجتماعي (الفيسبوك)، ومتابعة الدورات التدريبية المكثّفة للموارد البشرية المصرفية.
أما على صعيد التشاور الداخلي، فقد حرصنا كرئاسة وكمجلس إدارة، على انتظام أعمال الجمعية بحيث عقد مجلس الإدارة الحالي 13 جلسة عادية و5 جلسات استثنائية منذ آخر جمعية عمومية، وحرصنا على تكثيف التشاور الدائم مع إدارات المصارف، لا سيّما من خلال اللجان الإثني عشر التي تضمّ 150 عضواً من مختلف المصارف يؤدّون دوراً مهماً ومشكوراً في بلورة العديد من المواقف حيال مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية التي تعني القطاع وحيال المسائل التقنية والمهنية التي طُرحت على الصناعة المصرفية.
هذا وقد التزمنا تنفيذ تعهّدنا أمام الجمعية العموميّة السابقة بتكليف إحدى أهم شركات المشورة الدولية إجراء دراسة لهيكلية الجمعية والتنظيم الإداري فيها تهدف، من جهة أولى، إلى مزيد من تفعيل وتطوير أداء أجهزة الجمعية والأمانة العامة وتؤمّن، من جهة ثانية، أوسع تمثيل ممكن لمكوّنات الأسرة المصرفية وأكبر قدر ممكن من المشاركة في تحمّل المسؤولية. وطبعاً، سنعود الى عقد جمعية عمومية استثنائية خصيصاً لهذه الغاية عند إنجاز الشركة المكلفة مهمتها لمناقشة أيّة تعديلات لازمة على نظام الجمعية الأساسي وعلى الحوكمة في أداء عملها والنظر في إقرارها.
في النهاية، لا يسعني غير أن أوجّه تحيّة تقدير الى جميع زملائي أعضاء مجلس الإدارة الذين شكّلوا فريق عمل واحداً ومتجانساً طوال السنة الأولى من ولاية المجلس وكرّسوا الكثير من جهدهم ووقتهم في خدمة الأسرة المصرفية، كما أنوّه باسم المجلس وباسمكم جميعاً، إذا سمحتم، بالأمين العام وسائر كوادر وموظفي الأمانة العامة الذين مكّننا تفانيهم المهني من تأدية مهامنا على المستوى المطلوب.