دولــة الرئيــس ،
معالــي الوزيــر،
سعــادة الحاكــم،
الزملاء أعضاء مجلس الإدارة
تتشرف جمعيتنا اليوم بهذا اللقـاء الذي يجمع مجلس إدارتنا بدولة الرئيس نجيب ميقاتي وسعادة حاكم مصرف لبنان رياض سلامه اللذين أرادا تكريم القطاع المصرفي في لبنان وقبول ضيافتنا على الغداء داخل هذا الصرح الذي دأب على خدمة لبنان واقتصاده وعلى المساهمة بقوة في سياسة الاستقرار النقدي والمالي وعلى خدمة القطاع المصرفي ذاته الذي يعتبر مركز الثقل في حياة لبنان الاقتصادية.
دولـة الرئيـس،
إن تاريخ المصارف في لبنان هو تاريخ النجاح والتميز في منطقة عانت في الخمسين سنة الأخيرة من أقسى التقلبات السياسية والعسكرية والحروب والانقلابات وقيام أنظمة اقتصادية أفقرت وقهرت شعوبها حيناً بدعوى الاشتراكية والعروبة وحيناً آخر باسم القضية القومية، ولكنها اتسمت في كل وقت وزمان بالفساد العارم والبيروقراطية المعيقة لكل تطور ولأي تطور.
بموازاة ذلك، كانت جمعيتنا تساهم في بناء قواعد النظام الاقتصادي الحر من خلال قانونٍ للنقد والتسليف شرّع استقلالية البنك المركزي بريادةٍ ميَّزت لبنان عن العديد من الدول حتى المتطورة في حينه، وفي وضع التشريعات المصرفية والمالية والتي جعلت من لبنان مركزاً مالياً ومصرفياً متميزاً في هذه المنطقة من العالم.
وفي عزّ الحرب الأهلية تخطينا الحواجز التي ارتفعت والدويلات التي أقيمت وأوصلنا الخدمات المصرفية عبر فروعنا إلى كل المناطق وإلى كل الناس. وفي مقابل وضع قوى الأمر الواقع يدها على موارد الخزينة، وفّرنا للمالية العامة الأموال اللازمة لديمومة عمل الدولة بل لديمومة الدولة ذاتها.
ووفرنا للدولة منذ مطلع التسعينات حتى اليوم وفي ظل تعاقب الحكومات من مختلف الأحزاب والقوى جُلَّ احتياجاتها التمويلية، وقد تخطت حالياً ما يقارب ثلاثين مليار دولار 44% منها بالعملات الأجنبية و 56% بالليرة أي ما نسبته 77% من الناتج المحلي الإجمالي. فساهمنا بذلك في استقلالية القرار السياسي بمنأى عند تدخل المؤسسات المالية الدولية أو المصارف العالمية يوم كان تدخلها وتقييد القرار السيادي للدول (كتركيا وباكستان والبرازيل والمكسيك) هو السمة البارزة لديها.
وطبعاً لم يكن ذلك ممكن التحقيق لولا القيادة الحكيمة والفعّالة للسلطة النقدية والسياسة النقدية التي وفّرها سعادة الحاكم رياض سلامة، حتى في أشدّ المراحل خطورةً بوجه بعض أهل الداخل وبوجه بعض أهل الخارج، بما فيها رفض نصائح صندوق النقد الدولي بالتخلّي عن ربط الليرة بالدولار أي عن الاستقرار النقدي. الحملات الداخلية والدولية تستمر بأشكالٍ ووسائل إعلام مختلفة ولكنها لن تأتي على الاستقرار النقدي الذي ارتضيناهُ كسياسة، وإن بكلفة عالية. فالاستقرار النقدي ضروري أساساً للقوة الشرائية لذوي الدخل المحدود والأُجَراء وكذلك للاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلد، وأخيراً لجعل القدرة التمويلية للقطاع المصرفي متاحة من خلال جذب الاستثمارات والأموال إلى لبنان.
دولــة الرئيـس،
لم يَحُل التزامنا القطاع العام دون توفير كامل الاحتياجات التمويلية للقطاع الخاص اللبنانـي، وهو مولّد الدخـل الوطني ومحرّك النشاط الاقتصادي وموفّر فرص العمل. وقد تعدّت تسليفاتنا الإجمالية للقطـاع الخاص المقيم وغير المقيم صافيةً من الديون المتعثرة 41 مليار دولار، أي ما يوازي 100% من الناتج المحلـي الإجمالي. ونُجري للقطاع الخـاص مدفوعاته الداخليـة والخارجيـة بكفاءَة عالية وكلفة متدنية. وليس أدلّ على ذلك من حجـم مقاصة الشيكات التي تخطّت عام 2011 عدداً 13 مليـون شيك وقيمةً ما يزيد عن 72 مليار دولار اميركي. وينسى الناس أحياناً أن القطاع المصرفي اللبناني استطاع بما يتمتّع به من مصداقية وثقة لدى اللبنانيّين أن يستقطب حجماً غير مسبوق وهاماً جداً من المدخرات اللبنانية في الداخل وفي المغتربات. فودائع القطاع المصرفي تقارب حالياً في المصارف العاملة في لبنان فقط 121 مليار دولار أميركي. إنها ثروة اللبنانيين، ونحن نسهر ونحافظ عليها بكل كفاءَة وآمان.
وفي خدمة القطاع الخاص أيضاً دخلنا شركاء فاعلين مع الدولـة في آليـة دعم الفوائد ومع البنك المركزي في صيغ استعمال أو تخفيض الاحتياطـي الإلزامي للقطاعات المنتجة وكذلك لتوفير مساكن لذوي الدخل المحدود ولفئـات خاصة كالقضاة والعسكريين والمهجّرين. فقد بلغت المبالـغ التـي وفّرناها من خلال الإقراض المدعوم حتى الآن بمجموعها ثمانيـة مليارات من الدولارات، معظمهـا أي ما يفوق 70%، يعود لآليـات الاحتياطـي الإلزامـي وما تبقّى، أي أدنى من 30% لدعم الفوائد. والمصارف تتحمّل وحدهـا من دون الدولـة أو البنك المركزي او الجهات الدولية المخاطر التجاريـة ومخاطـر السـوق لهذه القروض. وكذلك هي الحال مع الأموال التي وفّرتها لنا مؤسسات دولية وصناديـق إقليميـة لتمويل الأنشطة والمشاريع بشروط ميسَّرة.
فقد موّلنا في المجال السكني وحده وبالعودة الى آليات الدعم ما يزيد عن 70 ألف وحدة سكنية بمبلغ فاق خمسة مليارات دولار، أي بمتوسط يناهز 71 ألف دولار للمنزل الواحد. وقد بلغت المساكن المموَّلة من خلال بروتوكول التعـاون مع المؤسسة العامة للإسكان وحدَها اليوم 50.000 مسكن، أي أن 50 ألف أسرة أصبحت تملك مساكنها. وسنستمر في إيلاء الإقراض السكنـي حيّزاً هامـاً من نشاطنا لأهميته في الاستقرار الاجتماعي. وليس ما يمنع بل سنكـون متعاونين مع الحكومة والبنك المركزي لتمويل ترميم الأبنية المتداعيـة وتمويـل مساكن جديدة أو شراء مساكنهم من قبل المستأجريـن في حـال أُقرّ قانون عادل للإيجـارات. وقد آن الأوان لإفراج المجلس النيابي عنـه.
دولـة الرئيــس،
ليست لدى جمعيتنا وقطاعنا مطالب نتقدم بها اليوم. ما سأقولـه يشكّل قناعات مشتركة بيننا وبينكم، ولنا بكم كامل الثقة كرجل دولة وكرئيس حكومة وكرجل أعمال.
تحوط بنا أوضاع إقليمية ودولية أقل ما يقال فيها إنها تحمل تحدياتٍ بل مخاطر كبرى يتداخل فيها السياسي بالأمني والاقتصادي والمالي بالاجتماعي. ويستدعي التصدي لها أو حتى التأقلم معها تكامل وتكاتف الجهود، جهودنا جميعاً، وبالكاد قد نتخطّاها بنجاح نسبي أو بالحدّ الأدنى من الخسائر، فكيف اذا تصرّفنا ازاءها بتناحر ؟ ومن منطلقات فئوية ضيقة وآنية !..
إن تعاملكم على المستوى السياسي– الأمني أراح البلد منذ بدء عمل الحكومة. ومن المهم استمرار هذا المنحى وتأكيده. وقد جاءت عملية تصحيح الأجور بتوافق طرفَيْ الإنتاج وبجهد مشكور ومنكم شخصياً ومن وزيري العمل والاقتصاد، وبالرغم من التجاذبات الحادة أحياناً جاءَت عادلة للجميع ضمن المعطيات القائمة. ويمكن تحسين الأوضاع الاجتماعية بشكل أوسع من خلال تصحيح الأوضاع السيّئة المتفاقمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حيث للمؤسسات وللمستشفيات مئات ملايين الدولار من المتأخّرات لسنواتٍ، ناهيك بما يعانيه المضمونون من إذلال جرّاء المطالبة بحقوقهم من التقديمات عند أبواب الضمان. ونأمل أن يتمّ التعاون بيننا كهيئات وبين الاتحاد العمالي العام لإنهاء ورشة إصلاح الضمان الاجتماعي ولإقرار مشروع ضمان الشيخوخة الذي يُعطي حلاً للضمان الصحي بعد سن التقاعد. إننا ندعم بشدّة ما يقوّي النسيج الاجتماعي في لبنان، فكلّنا أبناءٌ لوطنٍ واحـد نتقاسم مصيراً مشتركاً ونعمل لمستقبل واعد.
دولــة الرئيــس،
على المستوى المالي، ولا سيّما في ما يخصّ المالية العامة للدولة، نأمل أن يدفعنا ما تعانيه دول أوروبية عريقة من تخفيض في مكانتها من قبل مؤسسات التقويم العالمية ومن تفاقم في عجوزاتها ومديونيتها وكلفتها وملامسة حدود الإفلاس وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعـي لكي نقـارب بمنتهى العقلانية وضع المالية العامة لدينـا. فالوقت لشدّ الأحزمـة وضبط النفقـات ولترشيدها بعيداً عن الاعتبارات الضيّقة والفئوية. والوقت للامتناع عن أية إجراءات قد تدفع مؤسسات التصنيف العالمية الى تخفيض درجة لبنان المنخفضة أصلاً. فلا يجوز إعطاؤها أسباباً لتُخرجنا من الخريطة والأسواق. فالوقت ليس وقتاً للطروحات الشعبوية و/أو المرتجلة. الوضـع دقيــق فعــلاً.
ومن قناعاتنا المشتركة أيضاً، دولة الرئيس، أن نجدّد التأكيد على دعم روح المبادرة الخاصة والحفاظ على الاقتصاد الحر والانفتاح على الأسواق العالمية. فقد سمح لنا هذا النظـام بنمو اقتصادي ومستوى معيشة لشعبنا ما كانـا ممكنَيْن فـي بلد صغير ودون موارد تُذكر. وقد سمـح لنا هذا النظام القائم على الحريـة والمبادرة كذلك باجتذاب الرساميل والاستثمارات من اللبنانيين المنتشرين في كل أنحاء العالم ومن مجتمع الأعمال اللبناني والعربي.
أن تُجارينا الشعوب العربية اليوم والشباب العربي صانع الربيع الى تغيير جذري في مناخ الأعمال والى توفير الحرية السياسية والاقتصادية وإرساء آليات ديمقراطية لانتقال السلطة وتداولها، كلّ هذه التطلّعات تُشعرنا نحن اللبنانيين بأحقّية وصوابيّة النموذج الذي اخترناه منذ عقود وعقود. ونعلن تمسّكنا به ونصرُّ على تجديده وعلى تطويره بعيداً عن التقوقع والانغلاق، وقد أكّدت وأشادت به بالأمس في مؤتمر الإسكوا الأوساط العربية والدولية. فليس مقبولاً أو مسموحاً لأية فئةٍ أو مجموعة جرّنا إلى أنظمة وقوانين وممارسات كلّها من الماضي العربي والعالم ثالثي التي أثبتت تخلّفها وانعدام فعاليتها الاقتصادية والاجتماعية.
طبعاً ليس نظامنا خالياً من العيوب. ولا بدّ من تصحيح الخلل الكبير في توزيع المداخيل. فحصة الأجور لا تُزاد بقرارات إدارية بل من خلال خلق فُرص عمل جديدة ومن خلال رفع إنتاجية الاقتصاد والموارد البشرية. إنها عملية تدريجية وبطيئة بطبيعتها.
دولــة الرئيــس،
في خضمّ التطورات الجذرية القائمة حولنا نتفاجأ بإدراج تعديلات ضريبية تتسلّل إلى مشروع الموازنة، ويُخشى إن أُقرّت أن تغيّر في غفلةٍ من الزمن أطراً قانونية راسخة منذ عقود، وأن تهّدد أنظمة شركات الهولدنغ والأوف شور وغيرها من المنظومة القانونية التي أثبتت جدواها. ونتفاجأ كذلك بتفسيرات استنسابية للقوانين ولفرض الغرامات وللإجراءات الضريبية، والتي يُخشى معها تهجير العديد من الأعمال والاستثمارات الى الدول المحيطة أو البعيدة بحيث تفقد بيروت ولبنان القدرة على المنافسة. وبدلاً من تحقيق ايرادات اضافية للخزينة، ستؤدّي هذه الاجراءات في الواقع الى خسائر كبيرة وأضرار فادحة للخزينة و لكامل مجتمع الأعمال الصناعي والتجاري والسياحي والمالي. ومن هنا ضرورة أن تضع حكومتكم حداً سريعاً لهكذا توجّهات وتفسيرات وتكاليف.
دولـة الرئيـس،
إسمحوا لي أخيراً بأن أقول كلمة مقتضبة في القطاع المصرفي الذي يتعرّض منذ فترة لحملة مركّزة في بعض الأوساط الصحافية العالمية. وطبعاً يستهدفون من خلاله أوضاعا لا تمّت الى القطاع بصلـة. والحقيقة أننا نعمل منذ عقدين على تحديث العمل المصرفي والمالي في لبنان بتعاون وثيق مع السلطات من خلال اعتماد قواعد الصناعة المصرفية العالمية ومن خلال اتفاقية الحيطة والحذر والقانون 318/2001 والتعاميم المرتبطة به ومن خلال الموارد المادية والبشرية الهامة والمتزايدة التي نخصّصها في هذا المجال . لقد أرسينا أنظمة وآليات تسمح لنا بإبقاء القطاع المصرفي بعيداً عن استعماله للعمليات غير المشروعة، الأمر الذي كان موضع تقدير من المجتمع الدولي. كما تُتاح للرأي العام بدرجة عالية من الشفافية والإفصاح والنشر مطلوباتنا وموجوداتنا ونتائجنا الموقَّع عليها من أفضل شركات التدقيق العالمية. وتشهد على ذلك كل المرجعيات الدولية في الدول الكبرى وفي المنظمات والمؤسسات المالية العالمية، وتؤكّده في تقاريرها. ونأمل من دولتكم تكثيف العمل داخل الحكومة ومع القوى السياسية لحماية وتحييد القطاع المصرفي عن كل التجاذبات، لأنه يجمع مصالح كل اللبنانيين ويسهر على رعايتها والنأي بها في عملياته عن كل ما يُعرّض هذه الثروة الوطنية لأية أخطار داخلية أو خارجية.
أصحـاب الدولة والمعالي والسعادة،
قوةُ قطاعنا المصرفي الذي يدير حالياً موجوداتٍ قاربت 150 مليار دولار بل 168 ملياراً اذا ما أُضيفت موجودات مصارفنا الشقيقة والتابعة في الخارج، صنعها تلاقي عنصرين اثنين : أولّهما مساهمون وإدارات خبيرة وواعية وذات رؤية وكفاءة. وثانيهما سلطات نقدية بدورها خبيرة وواعية ذات رؤية وكفاءة، وها هما اليوم تلتقيان معكم لتجدّد الثقة بكم ولتتمنّى لكم التوفيق في مسيرة الحكم في هذه الحقبة الصعبة والملأى بالمخاطر والمفاجآت.
شـكراً لزيارتكـم الكريمـة الـى هذا الصرح، الى جمعية مصارف لبنـان، جمعيـة كـل لبنـان.
عشتــم وعــاش لبنــان وقطاعــه المصرفـي.
بيـروت في 23 كانون الثاني 2012
رئيس جمعية مصارف لبنان