كلمة الدكتور جوزف طربيه
رئيس الإتحاد الدولي للمصرفيين العرب
رئيس اللجنة التنفيذية لاتحاد المصارف العربية
رئيس مجلس الإدارة - المدير العام لمجموعة الإعتماد اللبناني
في المؤتمر المصرفي العربي السنوي للعام 2014
تحت عنوان
"أي اقتصاد عربي ينتظرنا"
20 تشرين الثاني / نوفمبر 2014
فندق فينيسيا - بيروت
- دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ تمام سلام، راعي هذا المؤتمر
- أصحاب الدولة والمعالي والسعادة،
- سعادة حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة،
- زملائي المصرفيين،
- أيها الحضور الكريم،
أتوجه أولاً بالشكر لدولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ تمام سلام لرعايته وحضوره مؤتمرنا هذا. وأرحب بالحاضرين جميعاً، من المصرفيين وصناع القرار السياسي والاقتصادي، والاعلاميين، من الدول العربية الشقيقة والدول الأوروبية والأميركية والآسيوية، وكذلك ممثلي الهيئات الإقتصادية والمالية الإقليمية والدولية. كما أشكر المؤسسات المصرفية والمالية الراعية لفعاليات هذا المؤتمر، ولكل من ساهم في نجاح إنعقاده في مدينة بيروت النابضة بالحياة والتي تسعد بانعقاد هذا الجمع المميز على أرضها.
السيدات والسادة،
في الوقت الذي نجتمع فيه اليوم، تعاني منطقة الشرق الأوسط من اضطرابات سياسية وأمنية خطيرة، ألحقت دماراً هائلاً بالأرواح والممتلكات، وبالنسيج الاجتماعي والحضاري، لا سيما في دول الصراع التي تنهشها الحروب، جارفة في طريقها ما تعبت على بنائه أجيال كثيرة عبر مرّ التاريخ؛ وتـُعاد رسم خريطة الشرق الاوسط الجديد بسيول دماء ابنائه، ضمن مخططات جيوسياسية واستراتيجة مربكة.
إنها حرب عالمية في قلب منطقتنا، وإنه العنف بلا ضوابط عقلانية ولا متخيلة، بعدما تبخرت الحدود وصار في بعض الدول دويلات وسلاطين وأصحاب أمر ونهي. هو مشهد سوداوي قلبَ المعطيات ودفع المنطقة بكاملها الى قلب الدوامة الجهنمية، وقد يجرّها لدخول نفق مطبق بظلمته وظلماته، بعدما كانت الآمال مرتفعة بخيارات شعبية ووطنية استهدفت إعادة تكوين الأنظمة السياسية والاقتصادية والسلطات، وتحديثها، مع تأمين أوسع مشاركة مجتمعية وبما يحقق أهداف العدالة والشراكة الوطنية والتنمية الشاملة.
يبقى أن المشهد العربي ليس مرادفاً بكلّيته للعنف والقتال، اذ تتمتع دول عربية عديدة بالاستقرار، وتنشط مصارفها ضمن مناخات اقتصادية ايجابية، ومعدلات ربحية وسيولة كبيرة، حيث يلعب القطاع المصرفي دوراً حيوياً واساسياً في حياة مجتمعاتها، مما يساعد ملايين العرب على تحقيق أهدافهم، ويضع اقتصادات عربية في أعلى معدلات النمو.
وفي هذا السياق، تخطت موجودات المصارف العربية في نهاية الفصل الأول من العام 2014، ويتجاوز عددها الـ 430 مصرفاً، الـ 3.1 تريليون د.ا.، وبلغت الودائع 2 تريليون د.ا.، وتخطّت التسهيلات التي ضُخت في الاقتصاد مبلغ 1.75 تريليون د.ا. كما قاربت نسبة نمو القطاع المصرفي ثلاثة أضعاف نسبة نمو الاقتصاد، مما يشير الى المساهمة الكبيرة للصناعة المصرفية العربية في الاقتصاد العربي.
وفي المقابل، قـُدّرت كلفة ما سمي بالربيع العربي، بحسب دراسة أعدّها مصرف HSBC ، ما يتخطى الـ 800 مليار دولار اميركي منذ انطلاقته في العام 2010 في الدول الأكثر تضررا وهي: مصر، سوريا، تونس، ليبيا، البحرين، الاردن، اليمن، وكذلك لبنان. ومن المتوقع أن يبقى الناتج القومي العام لهذه الدول منخفضاً بنحو 35 % حتى نهاية العام 2014 . ومع تسارع النمو السكاني في العالم العربي وتزايد فئة الشباب، خاصة المتعلمين منهم الذين لا يجدون فرصاً للعمل، تتفاقم أزمة البطالة كأحدى أكبر معوقات التنمية والنمو الاقتصادي، وتـُقدر تكلفتـُها على الاقتصادات العربية بنحو 50 مليار دولار سنوياً. وقد تخطت نسبة البطالة في العام 2014 عتبة الـ 17% ، ما يعني وجود 20 مليون عاطل عن العمل في الدول العربية!
ومن المؤشرات الأكثر أهمية اتساع هوة البطالة بين الجنسين لتصل إلى 41% بين النساء مقابل 23% للرّجال على المستوى العربي. وكلنا يعلم ان نسبة البطالة كانت سبباً رئيساً في اندلاع الثورات العربية، ناهيك عن الارتفاع في معدلات الفقر، والتراجع في مستوى المعيشة والتعليم، واستشراء الفساد، وترسيخ البيئة الطاردة للاستثمار في الوطن العربي، ما يدفع رؤوس الاموال العربية إلى مزيد من الهجرة. ولا نتكلم هنا على البطالة التي سببتها الحرب والنزوح السكاني، اذ ان تقديرات الامم المتحدة للنازحين الذين فقدوا منازلهم في سوريا والعراق وحدهما قد تجاوز الـ 13 مليون نسمة.
أيها السيدات والسادة،
إننا أمام مأساة كونية بكل المقاييس، ستمتد آثارُها لآجيال عديدة، إذ أن آثار الحرب تدوم أكثر من الحرب. إننا أمام مشهد متشابك ومعقد يهدد استقرار دول المنطقة والعالم، ولو بدرجات متفاوتة، وتبدو الحاجة ملحة أولاً لوجوب الضغط لإنهاء النزاعات القائمة، كي يصار الى المباشرة بإعادة البناء السياسي والمؤسساتي والاقتصادي والاجتماعي والانساني. وقبل أن نتساءل أي اقتصاد ينتظرنا، يبادرنا الملايين ممن شردتهم المعارك ودمـّرت أرزاقهم بالسؤال الملح: "ونحن ماذا ينتظرنا؟". وفي الحقيقة كل ما نرسمه يذهب هباء، بما فيه استقرار مصارفنا، إذا ما بقيت آلة الحرب والتدمير والتهجير مستمرة، مما يجعل وقف الحرب والاضظرابات هدفاً أولياً.
إن مرحلة ما بعد الاضطرابات ستخلق آفاق تعاون اقتصادي واسعة وفرص استثمارية هائلة توفرها مشاريع اعادة الاعمار، حيث يمكن أن تلعب فيها رؤوس الأموال العربية الدور البارز، عن طريق عقد الشراكات الاستراتيجية بين المصارف، وبين القطاعين العام والخاص، وخلق التجمعات العملاقة، وتشجيع الاستثمار العابر للحدود بين الدول العربية، بما يساعد على تحفيز النمو وايجاد فرص عمل جديدة تستوعب موجات البطالة الكبرى الناتجة عن تدمير المؤسسات والتهجير والنزوح السكاني.
بالطبع، لا يقع على عاتق المصارف العربية وحدها مسؤولية تمويل إعادة الإعمار، إذ نرى الدور الأساسي على هذا الصعيد للحكومات والمنظمات الدولية، والصناديق الاستثمارية العربية، والصناديق السيادية، لأنه يستحيل على المصارف وكذلك على تلك الدول التي تشهد نزاعات حالياً، إعادة إعمار ما تهدّم بالإمكانات الذاتية، وحل المشكلات الاقتصادية التي كانت سائدة قبل الأحداث، أوتلك الناجمة عنها.
إن وجود قطاع مصرفي ناجح هو ضروري لمرحلة إعادة الإعمار بعد سكوت المدافع وأفول موجات القتل والتدمير. فالمنطقة العربية مقبلة على تطورات سياسية مفصلية، وتالياً فإنه من الضروري أن تتحضر المصارف لهذه التطورات، إذ إننا ندعو إلى مواجهة العنف السياسي بالنمو الاقتصادي لأن العنف ينشأ نتيجة لخيبة الآمال وانسداد آفاق العيش الكريم.
أيها السيدات والسادة،
إن مصارفنا العربية تواجه هذا الكم الهائل من التحديات الداخلية، يضاف اليها ضرورة الامتثال للمتطلبات الدولية المتلاحقة. لقد تغيّر العالم خلال السنوات العشرين الماضية كما لحقت بالقواعد التي ترعى العمل المصرفي تغييرات عميقة.ولست أبالغ إذا قلت ان العنوان الرئيسي لهذه التغييرات يندرج تحت عنوان "الإمتثال". فالمصارف تخضع اليوم لحزمة من الأنظمة والقوانين لا تقتصر على الجانب المحلي، بل أن معظمها اليوم له طابع دولي يتناول أصول ممارسة المصارف لأعمالها، والاجراءات الواجب اتخاذها لمكافحة الجرائم المالية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتبادل المعلومات لمكافحة التهرب الضريبي. وإن أهم المؤتمرات الدولية التي تعقدها الدول الكبرى اليوم تتمحور حول تحميل المصارف عبء المكافحة الذي هو في الأصل من مسؤوليات أجهزة الأمن ودوائر فرض الضرائب وغيرها من مؤسسات فرض النظام وتطبيق القانون. ولن تتوقف الضغوط الدولية على مصارفنا لإلزامها على الامتثال وعلى دولنا لتعديل تشريعاتها وتوقيع الاتفاقات لتبادل المعلومات المالية تحت طائلة تعريض مؤسساتنا المصرفية للعقوبات.
ولا يجب أيضاً أن نستخف بتأثير المستجدات العالمية على اقتصاداتنا ومصارفنا، فإذا كانت سيولتنا تعتمد الى حد كبير على النفط وسعر النفط، فان المشهد يبدو غامضاً إن لم يكن قاتماً بعد الانقلاب المذهل في الأسعار ومصادر الانتاج. كما ان اقتصاداتنا تتأثر بالاقتصادات العالمية التي تظهر مؤشرات تراجع خاصة في أوروبا والصين، وان العالم كله يسعى الى ايجاد نظام مالي أقل هشاشة يحفظ سلامة المصارف، بما يضع النظام المصرفي بأجمعه تحت تأثير اختبارات الضغط وإجراءات الرقابة.
وفي المحصلة،
ان التحديات التي تواجه عالمنا العربي الآن ليست اقتصادية فقط بل هي كيانية، في ظل خلط كل الاوراق وتغيير كل الثوابت. من هنا فإن قياداتنا ومسؤولينا في المنطقة العربية مدعوون للتعاطي مع مشهد آخر لم نعتد عليه. إن العمل على الاصلاحات السياسية والاجتماعية وحتى البيئية، إضافة الى استحداث فرص عمل لاستيعاب موجات الشباب الباحثة عن العمل، بات مطلباً ملحاً لا بل حياتياً لنا ولأجيالنا الصاعدة.
إن حضور هذا الجمع المميز من قادة المصارف والمؤسسات العربية والخبراء لرسم رؤية جديدة لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة في ظل التداعيات الاقتصادية للتحولات العربية، لهو بادرة خير، نأمل لمؤتمرنا أن ينجح في تظهيرها.
وشكراً لحسن إصغائكم.