كلمة
الدكتور جوزف طربيه
رئيس جمعية المصارف في لبنان
منتدى الاقتصاد العربي
الدورة 20
بيروت 10 أيار – مايو 2012
دولة رئيس الوزراء التونسي
دولة رئيس الوزراء اللبناني
حضرات الضيوف الكرام
أيها السيدات والسادة
للعام الثاني على التوالي تصادر الاحداث الكبيرة الجارية في منطقتنا عنوان وجلسات هذا المؤتمر الهام الذي تستضيفه بيروت سنوياً منذ عقدين متتاليين. ولا غرابة في ذلك، فهذه الاحداث تتصدر جدول أعمال أي قمة أو إجتماع أو منتدى عالمياً وإقليمياً، سياسياً وإقتصادياً، مكرسة حقيقة واضحة بأننا في قلب تحولات غير مسبوقة في حجمها ودلالاتها ونتائجها ليس على مستقبل شعوب ودول المنطقة فحسب، بل على العالم كله بدوله وتكتلاته الجيوسياسية والاقتصادية ومراكز القرار والاستقطاب الدولي.
وبالفعل العالم كله يراقب ويواكب، وأغلبه متداخل أو يسعى لحجز دور داخل دينامية التحولات متابعة وتدخلاً وتأثيراً ومساهمة. لذا، لا تزال الأجوبة الشافية للاسئلة الكبرى صعبة حيناً ومتعذرة غالباً : هل بلغت هذه الموجة مداها؟ علام ستستقر؟ ما هو مستقبل الشعوب والدول في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم؟ أي أنظمة سياسية واقتصادية سيطالها التغيير، وأي أنظمة ستقوم بديلاً منها؟ وإستتباعاً هل من نظام عربي جديد ومنظومة جديدة للعمل المشترك؟
في إنتظار إنقشاع الضباب وجلاء كامل الصورة، الثابت، أيها السيدات والسادة ، أن التغيير حصل ويحصل ورياحه تلفح المنطقة بكاملها. قد يكون مبكراً الحكم على النتائج المحققة ما دامت حركة التحول في أوج تفاعلاتها ، لكن ثمة إشارات متباينة تطفو على سطح الاحداث ربما نتجت عن سرعة هذه التغييرات وشموليتها ونوعيتها .
والثابت أيضا، أن سرعة التحولات في المشهد الجيوسياسي العام لمنطقتنا، بما أنتجت من زوال أنظمة بكاملها وإهتزاز أنظمة أخرى تحت تأثير ضغوط وإحتجاجات داخلية وسط تشابك مصالح وتدخلات مباشرة وغير مباشرة من قبل دول القرار العالمي والمؤسسات والتجمعات الاقليمية والدولية، تفرض، فيما تفرض، على النخب السياسية والاقتصادية العربية أن تكون في قلب الحركة وان تساهم بفعالية في ضبط المسار بما يتلاءم مع مصالح دولها وشعوبها .
إن التأثير المباشر لهذه التحولات في تحديد المسارات المستقبلية لدول المنطقة بكاملها، بما يشمل إعادة هيكلة الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يدعونا الى التحذير من إنحراف مسار التغيير، وبالتالي تحول الربيع الى صيف حار يحول الاستقرار الهش السابق الى فوضى خطيرة تستنزف رصيد الاهداف النبيلة التي سعت اليها الثورات والاحتجاجات الشعبية. لذا فإن المهمة الواجبة الجامعة للقوى التي قادت التغيير في بلدانها أن تتكاتف وتعكف، بجد وصدق، على صياغة مفاهيم ودساتير جديدة تضمن الحريات الأساسية وتؤمن الاصلاح وسيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنموية. وبعدها فلتحكم المؤسسات ومن أختاره الناس لادارة هذه المؤسسات.
وعلى وجه العموم يمكننا جميعاً أن نتفق على قاسم مشترك يلتقي عنده الجميع. فالمبدأ أن نؤيد كل تغيير ينشد المشاركة والانفتاح والتحرر والنمو والتنمية، ويبني دعائم قوية لاستقرار دائم. ونرفض، في المقابل، أي نتائج تقود الى تعميم الفوضى وزعزعة ركائز الوحدة الوطنية وإستنساخ الاستئثار بأشكال مختلفة والتسبب بأضرار تصيب المجتمع أو فئات منه والموارد الوطنية والبنى التحتية والمؤسساتية خصوصاً منها الاقتصادية والاجتماعية .
إن التزام هذه المبادىء في صلب أهداف التغيير المرتجى من شأنه تحقيق تقدم نوعي وواعد في المقومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يسهم بفعالية في توسيع مساحة التعاون والتضافر بين شعوب المنطقة ودولها. ومن البديهي أن التقارب في طبيعة الانظمة لجهة التلاقي مع طموحات الشعوب ورغباتهم سيجمع الجهود ويدفعها معاً صوب بلوغ مشهد عربي جامع وجديد يكون في صلب مقوماته تطوير مفهوم العمل العربي المشترك بصيغ جديدة أكثر نجاحاً وفعالية.
أيها الحضور الكريم
في ظل هذه المناخات السائدة، يواجه لبنان ظروفاً معقدة على الصعيد السياسي والاقتصادي، إنعكست فيها بعض آثار الأحداث العربية وخاصة الوضع السوري الملتهب على حدوده وتلاحق الضغوط الدولية وخاصة عن طريق فرض العقوبات الاقتصادية والمالية على سوريا، والتي إنعكست على النشاط المصرفي في سوريا، وقلصت الى حد كبير من حجم العلاقات الإقتصادية والمصرفية بين لبنان وسوريا.
ولكن على الرغم من ذلك، إستمر القطاع المصرفي اللبناني في إدائه القوي خلال عام 2012 حيث أظهرت المؤشرات للشهرين الأولين من العام الحالي تحسناً قياسياً على الفترة ذاتها من العام السابق إذ إرتفع إجمالي موجودات مطلوبات المصارف التجارية بنسبة 2,5% في مقابل نسبة نمو أدنى بلغت 0,8% في الفترة ذاتها من العام 2011. وإزدادت التسليفات للقطاع الخاص بنسة 2,7% في مقابل إزدياد الودائع الإجمالية بنسبة 1,5%، كما حافظت موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية على مستواها والذي يقارب 31 مليار دولار أميركي في نهاية شباط/فبراير الحالي. كما واصلت مصارفنا توجهها الناجح بالخروج من محدودية السوق المحلي الصغير الى رحابة السوق العالمي مع إتساع الفرص التي يوفرها، حيث أصبح القطاع المصرفي أحد أهم الجسور للتمدد الاقتصادي الخارجي للبنان، على خطوط الرساميل والاستثمارات والائتمان والتمويل والانتشار. فمؤسساتنا المصرفية تعمل في أكثر من 32 بلداً و95 مدينة في العالم ، وتؤمّن خدمات شاملة ومتنوعة لشريحة واسعة من العملاء المقيمين وغير المقيمين بحيث باتت تدير موجودات تفوق قيمتها 165 مليار دولار أميركي توازي 4 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ولا أذيع سراً إن قلت أن العديد من مصارفنا مهتم بمواكبة أي فرص جديدة لتنمية إنتشارها الإقليمي والدولي، بما في ذلك الفرص التي قد تنتجها التحولات الجارية.
نحن ندرك جيداً أننا نعمل ضمن إقتصاد مدولر بنسبة 65% . وعليه، فإننا ندير مؤسساتنا المصرفية وفق المعادلة التالية: سيولة عالية وربحيّة معتدلة. أما الأزمات المالية والإجتماعية والسياسية التي تسود من حولنا ، فإنها تندرج في إطار التحديات المتعددة التي تواجهنا كمصرفيّين واقتصاديّين، ونحن نعمل على جبه هذه التحديات ببصيرة ورويَّة في جو من التعاون المقرون بإلتزام القيّم التي نتشبَّث بها، في ظل سلطة نقدية ناجحة هي بالنسبة للقطاع المصرفي اللبناني الحارس الأمين والمدبر الحكيم، نجحت في تحويل المصارف من ممول، الى شريك فعلي في تنفيذ السياسات الإقتصادية والإجتماعية والإنمائية .
ايها السيدات والسادة،
أختم كلمتي بالقول، أننا أمام تغييرات جذرية في البيئة الإستراتيجية للعالم العربي، تحمل في طياتها تحديات متنامية معظمها من نوع جديد لم نعتاد على مقاربتها، وهي ستترك إنعكاساتها على كل دولنا. وإني أرجو لمؤتمركم أن ينحج في وضع جدول أعمال عربي لمقاربة هذه التحديات ضمن إطار التضامن العربي والتحالف من أجل الديمقراطية والحرية والتقدم.