كلمة الدكتور جوزف طربيه
رئيس مجلس ادراة جمعية مصارف لبنان
رئيس الإتحاد الدولي للمصرفيين العرب
رئيس مجلس الإدارة - المدير العام لمجموعة الإعتماد اللبناني
في المنتدى الإقتصادي العربي للعام 2013
تحت عنوان
"ادارة المرحلة الانتقالية وتحدّيات استعادة النمو"
9 أيار / مايو 2013
فندق فينيسيا - بيروت
- أصحاب المعالي والسعادة،
- السيدات والسادة،
- أيها الحفل الكريم،
ينعقد المنتدى الاقتصادي العربي اليوم، الذي تنظمه مجموعة الاقتصاد والاعمال بالتعاون مع مصرف لبنان، وجمعية المصارف في لبنان، ومؤسسة التمويل الدولية، في جو من التوترات السياسيّة المحليّة، والإضطرابات الإقليميّة المتداخلة مع عوامل دولية، ترافقه تحولات في المشهد الجيوسياسي العام، بما يدعو الى القلق وعدم اليقين: من مصر الى تونس، مروراً بليبيا واليمن، وتلك العاصفة بسوريا، حيث تدخل الأزمة فيها مراحل جديدة كل يوم، مخلّفة ارتدادات خطيرة على الأمن السياسي والاقتصادي العربي.
في هذه المرحلة، يبدو الكلام عن الاقتصاد خافتاً، في وقت يرتفع فيه صوت العنف والصراع، وتتوالى الاجتماعات الاقليمية والدولية دون أن تأتي بالدواء الشافي لمنطقتنا، التي تبدو كأنها في صميم المشكلات الكبرى التي يتخبط فيها العالم، والتي يختلط فيها النووي بضعف النمو الاقتصادي، والبطالة بعدم الاستقرار والفساد. ناهيك عن المخاض العسير لولادة نخب سياسية جديدة، تعبر عن آمال الشعوب التي ثارت للدخول في التاريخ السياسي، الذي أقصيَت عنه طويلاً.
ومن نافل القول اننا في مرحلة انتقالية صعبة وخطيرة، ولكن منطق التاريخ يشير الى نهايات لها، في وقت أو في آخر. ولا بد من الحياة ان تستمر، ومن مواجهة تحديات هذه المرحلة وادارة مخاطرها بالكثير من التبصر والحكمة وقوة الارادة. وليست الامكانات الفكرية أو الكفاءات البشرية هي التي تنقصنا في العالم العربي، انما فقدان آليات التعاون والعمل العربي المشترك للخروج من المحنة المتمادية، والاستعداد لتحريك محركات النمو، الذي لا بد له من ان يكون هدفاً استراتيجياً لمستقبل بلداننا وشعوبنا، ننشده لاستيعاب طاقات الشباب المتفجرة، والعودة الى العمل الاقتصادي المنتج بعد انتهاء دورات العنف والتدمير.
وقد أجمعت كل المتغييرات المذهلة الحاصلة في العالم العربي، على رفع لواء الاصلاح وتفعيل التنمية المستدامة، واستهدفت تعميمه في كل المجالات، السياسية منها، والاقتصادية والاجتماعية، والقضائية والأمنية. ويأتي في أولوياتها تحقيق الاصلاحات السياسية الضامنة للاستقرار الأقتصادي الذي تنشده هذه المطالبات والتحركات. وقد أكدت الأحداث ان من يفشل في السياسة، يفشل في الاقتصاد، لا محالة. ولا يغيب عن أحد أنه من دون أمن، لا اقتصاد ولا نمو ولا حياة كريمة.
مما لا شك فيه أن موضوع ادارة المرحلة الانتقالية وتحديات استعادة النمو وخلق فرص عمل، يحتّم على الحكومات معالجة مواضيع آنية، وكذلك التخطيط لاصلاحات مستقبلية، قوامها خلق فرص العمل للشباب وتعزيز التنمية واستحداث الوظائف ذات الجودة للنساء والرجال معاً وضمان مشاركتهم الفعلية في الحياة الإجتماعية والسياسية، وتحسين مستويات المعيشة، إذ لم يعد قياس رفاهية الفرد في عصرنا يرتكز الى متوسط الدخل الفردي، بل الى عوامل عديدة اخرى، مثل الرعاية الصحية وتأمين التعليم والتنمية المستدامة والاستقرار.
الهدف ليس سهلاً في ظل اجواء التشتت التي تخيم على وطننا العربي خاصة وأن الأزمات الاقتصادية ترافق عادة الثورات، بل تتفاقم بعد حصولها بفعل فلتان الأمن وانكفاء المستثمرين، كما أن الاصلاحات الاقتصادية تستغرق سنوات، وليس من المؤكد أن لا يدفع ثمنها أحياناً الفقراء نتيجة رفع الدعم وارتفاع الأسعار وتزايد المؤشرات السلبية المرتبطة أساساً بمعيشة المواطنين.
أيها السيدات والسادة،
في هذا المشهد الضبابي يبقى دور المصارف العربية اساسياً في النهوض، لأنها قاطرة الاقتصاد ومحرك النمو في الوقت الذي ستحتاج فيه منطقتنا الى امكانات تمويلية غير محدودة. ولا بد من الاشارة الى ان نجاح المصارف العربية في دورها الجديد يتطلّب تفعيل الدور العربي في صياغة القرارات المالية والنقدية والاقتصادية الصادرة عن المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها... إضافة الى تطوير التنسيق مع المؤسسات الرقابية الدولية مثل لجنة بازل للاشراف على المصارف، من أجل المساهمة في وضع قواعد العمل المصرفي، ورسم استراتيجية تتعامل بمرونة مع متطلبات الانفتاح المصرفي العربي على المجتمع الدولي.
أما في لبنان، هذا الوطن الذي اعتاد مجابهة الأخطار ودرئها، لكونه واقع في منطقة جغرافية عرفت حروباً واضطرابات كثيرة في تاريخه، يعمل قطاعه المصرفي ضمن ظروف صعبة، تحتم علينا دقة في الادارة ومهنية عالية، بفعل المخاطر الكبرى والمتنوعة التي على مصارفنا ادارتها في كل وقت وفي كل آن، إضافة الى تعقيدات المعايير والانظمة الدولية المتكاثرة، والواجبة التطبيق. وقد نجح قطاعنا المصرفي اللبناني بمواجهة التحدي وابراز قدراته على ذلك، بحيث تكوّنت قناعة عامة في العالم بأن القطاع المصرفي اللبناني نظيف وسليم، والتعاطي معه مأمون. مرد ذلك بطبيعة الحال يعود الى كفاءة ادارات المصارف والى السياسات التي يرسمها مصرف لبنان، وعمل أجهزة الرقابة، وكلها ساهمت في حماية لبنان ونظامه المالي من ارتدادات كبرى الأزمات الدولية الاقتصادية وأكثرها حدّةً.
وكون القطاع المصرفي اللبناني الرافعة الحقيقية للاقتصاد ومحرك عجلة النمو، فقد استطاع تأمين استمرارية الدولة والسلطة العامة، خلال سنوات الحرب الاهلية المدمرة الطويلة، عن طريق توفير التمويل اللازم للحكومة واستمراريتها، في وقت كان تحصيل الضرائب شبه غائب. وقد وفرت المصارف التمويل الكافي للقطاع الخاص أيضاً، وساهمت بطريقة فاعلة في تمويل المشاريع الطموحة لإعادة اعمار الوطن واستعادة بيروت لمكانتها كجوهرة الشرق الأوسط. واليوم، بفعل انفتاحنا على الخارج وتواجد مصارفنا في 32 بلدٍ و111 مدينة في العالم، يدير قطاعنا المصرفي اكثر من 158 مليار دولار اي ما نسبته 3.5 مرات الناتج القومي للبنان. وهكذا يعمل القطاع المصرفي كشريك استراتيجي للدولة وللاقتصاد الوطني، مؤمّناً بذلك وظائف ورفاه اجتماعي، في ظل ظروف دولية واقليمية شديدة الصعوبة.
أيها السيدات والسادة،
إن ضرورة التمسك بالاستقرار الأمني وتحقيق خطوات إصلاحية على صعيد المالية العامة والادارة الحكومية مطلب أول ورئيس، من دونه لا يمكن لمصارفنا المضي بمهمتها في درء الأخطار وتحفيز الاقتصاد. واننا كمصارف عاملة في لبنان، نضم صوتنا الى مطالبة صندوق النقد الدولي في تقريره في المادّة الرابعة
((Consultation with Lebanon - Article IV الذي أبرز الحاجة الماسة لحكومة لبنان الى تطبيق خطط إصلاح، وتطوير البنى التحتيّة، وتحسين بيئة الأعمال وظروف سوق العمل، والحاجة إلى ربط عمليّات رفع الأجور بالإنتاجيّة. اضافة الى إعتماد الإجراءات اللازمة لحماية البلاد من تداعيات الأزمة على الإقتصاد اللبناني، وبالتحديد لجهة الماليّة العامّة للعام 2012، بحيث أنّه من المحبّذ العمل على تأمين فائض أوّلي في الموازنة من أجل الحفاظ على "الإنضباط المالي"، وضرورة إستمراريّة الحكومة بتخفيض نسبة الدين العامّ من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات المقبلة. هذا طبعاً، اضافة الى الحاجة الى تحسين فعاليّة قطاع الكهرباء الذي يشكّل خطوة مهمّة لدعم الإقتصاد اللبناني، حتى نستعيد معدلات النمو المشجعة التي سبقت الأزمة في سورية ونطمئن المستثمرين الأجانب والعرب لتشجيعهم على الاستثمار في مستقبل بلدنا.
ايها السيدات والسادة،
ان ما يحصل من ثورات في بلدان عربية عديدة، وتوالي سقوط الأنظمة، يضع العالم العربي وسط تحديات مصيرية تتناول اعادة البناء السياسي والمؤسساتي والإقتصادي والإجتماعي والإنساني. كما وإن التطورات التي نعيشها يجب أن تفتح عيوننا جميعاً، مصرفيين وإقتصاديين، الى جانب السياسيين وأصحاب القرار، الى وجوب إعادة تقويم مناهجنا للإصلاح الإقتصادي، مع التركيز على إحتياجات الناس ومطالبهم وحقهم في التنمية المستدامة، هذه التنمية التي يجب أن تكون ذات بعدٍ إجتماعي وإنساني، تعطي كل فرد في المجتمع حقه في أن يحصل على حياةٍ أفضل مع ضمان فرص العمل والحق في العيش الكريم، مما يعيد السكينة الى النفوس والرغبة في الإستقرار لمجتمعاتنا المضطربة، والتي أبرزت التطورات الأخيرة مقدار عمق المرارة والإلحاح في طلب الإصلاحات الحيوية.
ان حضور هذا الجمع المميز من قادة المصارف والمؤسسات العربية والدولية والخبراء لرسم اجندة "ادارة المرحلة الانتقالية وتحديات استعادة النمو وخلق فرص عمل" هو بادرة خير، نأمل لمنتدانا أن ينجح في تظهيرها وتحقيقها.
وشكراً لحسن متابعتكم.